رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تمد الخط الأحمر لتركيا إلى شرق المتوسط



وزيرا خارجية مصر واليونان وقّعا بالقاهرة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين ٦ أغسطس الجارى.. المفاوض اليونانى أبدى تشددًا عبر جولات مطولة استغرقت ثلاث سنوات، بدأت عقب لقاء الرئيس السيسى برئيس الوزراء اليونانى آنذاك، ألكسيس تسيبراس يونيو ٢٠١٧، تنفيذًا لاتفاقهما على التعاون لاستغلال ثرواتهما الكامنة فى المياه الوطنية.
خلال الزيارة الأخيرة أبدى الوفد اليونانى مرونة كبيرة، بهدف تذليل العقبات التى حالت دون التوصل لاتفاق الترسيم، مما سمح بتوقيعه خلال الجلسة، رغم أن ذلك لم يكن مقدرًا قبلها، مما قد يفسر الانتقادات التى وجهت للحكومة اليونانية على وسائل التواصل والحديث عن تسرع وتنازلات لإتمام الاتفاق.
بعض المحللين اليونانيين قدروا أن الاتفاق أقرب لمصلحة مصر بنسبة ٥٥٪.. لكن تلك الآراء تعكس موقفًا من حكومة أثينا، أكثر مما تعكسه من حقائق، فالاتفاق ترجمة لقواعد القانون الدولى للبحار، كما وردت باتفاق ١٩٨٢ الذى صدقت عليه ١٦٠ دولة، ولم تعد شركات التنقيب الدولية تقبل العمل إلا داخل المناطق التى تم ترسيمها بمقتضاه، مما يفسر إنشاء تركيا أسطول تنقيب وطنى، «للبلطجة» على دول المنطقة، لأن منطقتها الاقتصادية عبارة عن شريط ضيق، أكدت المسوح السيزمية خلوه من النفط والغاز.
تركيا حاولت تجاوز كارثتها الطبيعية بزيارة أردوغان مصر ٢٠٠٩، حيث عرض على الرئيس «مبارك» ترسيم الحدود متجاهلًا حقوق قبرص والجزر اليونانية!، مؤكدًا أن ذلك يضيف مساحات تقدر بـ٤٠ ألف كم٢ إلى المنطقة المصرية.. مبارك رفض، مشيرًا إلى توقيع مصر على اتفاقية قانون البحار والتزامها بتطبيقه، خاصة فيما يتعلق بحق الجزر فى منطقة اقتصادية، واحتساب المسافة بين دولتين من الجزر التى تمتلكانها، وليس من نقطة الساحل.. بعد سقوط مبارك، وخلال حكم الإخوان قام أردوغان بمحاولة أخرى، لكن المجلس العسكرى فرض على رئيس الجمهورية آنذاك احترام التزامات مصر الدولية، المترتبة على تصديق مصر على اتفاقية قانون البحار، والتى تم ترسيم الحدود البحرية مع قبرص بموجبها.
السياسة التركية بالمنطقة تتسم بالعدوانية، وتصاعدت عقب إسقاط إخوان مصر ٢٠١٣.. القاهرة ردت بتنظيم لقاءات قمة مع اليونان وقبرص منذ نوفمبر ٢٠١٤، حولتها إلى تحالف استراتيجى للقوى المسيطرة على معظم ثروات الغاز الواعدة بالمنطقة، وهو ما ألحق بتركيا هزيمة استراتيجية، دفعتها لتوقيع مذكرة نوفمبر ٢٠١٩ مع سراج ليبيا، لتوسيع منطقتها الاقتصادية إلى ضعفى المساحة الأصلية.. والأهم، الوصول بها إلى الحوض الرسوبى لدلتا نهر النيل، حيث تتجمع حقول غاز شرق المتوسط، وكذا لتتحايل على الوضع فى «بحر إيجه»، الذى يفصلها عن اليونان ويضم قرابة ٦٠٠٠ جزيرة يونانية، منها ٢٣٨ مأهولة بالسكان، بعضها مثل «كاستيلوريزو» تبعد عن الساحل التركى ١٣٠٠ متر فقط، ما يعنى أن خط الحدود البحرية بين الدولتين فى تلك المنطقة يبعد ٦٥٠ مترًا عن الساحل التركى، وهو عمق يكفى بالكاد للسياحة الشاطئية.. الجهود المصرية الهادئة لم تتوقف منذ ذلك الحين، بالتنسيق مع القوى الإقليمية، لتثبيت تلك الحدود وتحويلها إلى خط أحمر للحركة التركية فى البحر المتوسط، يؤمِّن ثروات دول المنطقة، ويحول دون اجتراء تركيا عليها، على غرار خط سرتالجفرة الذى شل حركتها فى ليبيا.
مرونة المفاوض اليونانى التى سمحت بإنجاز الاتفاق مع مصر كانت نتاجًا لمراجعة أثينا مواقفها الدبلوماسية والقانونية عقب توقيع مذكرة التفاهم الوهمية بين تركيا والسراج، مما يفسر مسارعتها بالتوصل إلى اتفاق بشأن تحديد المناطق الاقتصادية البحرية بين غرب اليونان وشرق إيطاليا فى البحر المتوسط، وهو الاتفاق الذى تم تعليقه لمدة ٤٠ عامًا نتيجة تشدد أثينا فى المطالبة بحقوق جزر صغيرة.. اليونان استقبلت وزير الخارجية الإيطالى لويجى دى مايو يونيو الماضى، وأعلنت عن توقيع الاتفاق فى ضوء القواعد القانونية التى تضمنتها اتفاقية قانون البحار لعام ١٩٨٢.. على النحو الذى حدد المناطق الاقتصادية الحصرية، وحل المشاكل الخاصة بحقوق الصيد فى البحر الأيونى.. فور التوقيع على الاتفاق كشف وزير الخارجية اليونانى نيكوس دندياس، عن أن الهدف الاستراتيجى لبلاده هو سرعة إنجاز عمليات ترسيم المناطق الاقتصادية البحرية الخالصة بين اليونان وكل جيرانها.
تركيا ردت بالتصعيد ضد اليونان منذ منتصف يوليو الماضى، وهددت بالتنقيب عن الغاز فى محيط جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، وحلقت مقاتلاتها فوق الجزيرة.. اليونان ردت بدفع مقاتلاتها، ورفع حالة التأهب، وإلغاء الإجازات العسكرية.. تركيا دفعت قرابة ٢٥ قطعة حربية، والبحرية اليونانية تحركت فى المقابل، حتى صار إعلان الحرب رهنًا بخروج الطلقة الأولى.. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل توسطت لدى رئيس حكومة اليونان كرياكوس ميتسوتاكيس، وأردوغان رئيس تركيا، ونجحت فى إقناع الأخير بسحب قواته البحرية، تجنبًا لاشتعال المواجهة.. إبراهيم قالين، المتحدث باسم أردوغان أكد أن الرئيس وجه بتعليق أنشطة التنقيب «كبداية بنّاءة نحو المفاوضات»، غير أن وزير الخارجية اليونانى رد بأنه لا يوجد مسار متفق عليه لبدء المباحثات مع أنقرة حاليًا، لأن بلاده ترفض التفاوض تحت التهديد.. وقام بعد أسبوع بتوقيع اتفاق الترسيم مع مصر.
وزير الخارجية التركى ندد بالاتفاق المصرى اليونانى، مدعيًا أن المنطقة المعينة للحدود البحرية تقع فى الجرف القارى لتركيا!، واعتبر الاتفاق بالنسبة لأنقرة فى حكم العدم!، والرئيس أردوغان أعلن استئناف عمليات التنقيب فى المنطقة المتنازع عليها شرق المتوسط.. أنقرة فى موقف بالغ الصعوبة، لأن رفضها خطوط الترسيم الناتجة عن الاتفاقات الثنائية بين معظم دول حوض شرق المتوسط، لا يستند إلى أى أساس قانونى، لأن كل هذه الاتفاقات تستند إلى معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار كمرجع حصرى منظم لقواعد الترسيم، التى وقعت عليها ١٦٠ من دول العالم.. حتى إسرائيل التى تشارك تركيا فى عدم التوقيع على الاتفاقية، وقعت اتفاق الترسيم مع قبرص وفق تلك القواعد وبالتراضى.. كما أن أمريكا التى لم توقع أيضًا تؤيد مبدأ «جميع الجزر لها نفس حقوق البر الرئيسى، كما ورد بالقانون البحرى الدولى» وتؤكد «أن مذكرة تركيا وليبيا لا يمكن أن ينتج عنها أى شىء بعيدًا عن اليونان».. تركيا فى مأزق.
توقيع الاتفاق المصرى اليونانى تزامن مع بحث معمق أجراه وزير البترول والثروة المعدنية المصرى المهندس طارق الملا، مع وزيرة الطاقة القبرصية ناتاسا بيليدس، يتعلق بنتائج عمل اللجنة الاستشارية، ومجموعة العمل رفيعة المستوى لدول منتدى غاز شرق المتوسط، بشأن تحديد الإجراءات الخاصة بتحويل المنتدى إلى منظمة دولية حكومية، تسهم فى تحقيق الاستفادة الكاملة للدول الأعضاء من موارد الغاز، وتدعم قدرتها على التصدى للمخاطر والتهديدات الموجهة لها.. كما ناقش الوزيران مسألة الإعداد لإقامة خط أنابيب بحرى مباشر بين البلدين، والذى تم توقيع اتفاق حكومى بشأنه لنقل الغاز الطبيعى من حقل «أفروديت» القبرصى، إلى معامل الإسالة فى مصر، تمهيدًا لتصديره.. مصر تحكم طوق الحصار على تركيا العثمانية.
وتزامن مع توقيع الاتفاق أيضًا إعلان قبرص وإسرائيل المصادقة على المضى قدمًا فى مشروع مد خط أنابيب الغاز «إيست ميد» الذى من المقرر أن يبدأ من حقل ليفاثيان الإسرائيلى ويمر عبر حقول الغاز القبرصية إلى اليونان ومنها عبر إيطاليا لإمداد أوروبا بغاز شرق المتوسط، ويقلل اعتمادها على الغاز الروسى، القادم عبر الأراضى التركية، بكل ما يمثله لها من أهمية، كدولة مستوردة للغاز، وتتقاضى رسوم مرور هائلة.
هذا الخط سبق أن أعلنت تركيا، متحدية، عن أنه لن يستكمل إلا بعد موافقتها على عبوره شريطها الوهمى مع ليبيا، إسرائيل وقبرص اختارتا الرد على تركيا بالإعلان عن مصادقتهما على الاتفاق فى ذكرى اجتياحها شمال قبرص ٢٠ يوليو ١٩٧٤.. النزعة العدوانية التركية تدفعها لارتكاب أخطاء جسيمة، تتسبب فى إهانتها، وتؤدى إلى سقطات استراتيجية، ستكون لها انعكاساتها على استقرار النظام السياسى التركى.
مصر وجهت ضربة قاصمة لسياسة تركيا وأطماعها بالمنطقة، مدت خط الجفرةسرت الأحمر، عبر البحر المتوسط حتى قرب السواحل التركية، لتحاصرها فى منطقة يمكن عبورها فى بعض المناطق سباحة، الخط المصرى أسقط مذكرة التفاهم بين تركيا والسراج، التى اعتبر «دندياس» وزير خارجية اليونان أن «مكانها قد أصبح سلة المهملات»، مضيفًا «سنواجه جميع تحديات المنطقة بالتعاون مع مصر».. الاتفاق مع اليونان يسمح لمصر أيضًا بتوسيع رقعة التنقيب عن الغاز، وتحقيق اكتشافات جديدة، بعائدات إضافية.. كما مكّن اليونان من فرض سيادتها على الجزر والجرف القارى والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وحبس تركيا داخل شريط بحرى ضيق، فضلًا عن تمكينها من استغلال حقل «هيرودوت» جنوب شرق «كريت»، وهو حقل واعد باحتياطات ضخمة.
الإخوان أشاعوا أن مصر تنازلت عن جزيرة خيوس اليونانية لخلق نوع من البلبلة والتشكيك فى الاتفاق.. وهذا إفلاس، لأن موضوع الجزيرة سبق إثارته عام ٢٠١٧، وحسمه القضاء الإدارى المصرى.. الأوقاف كانت تمتلك بعض مبانى الجزيرة، وتؤجرها للحكومة اليونانية، وقع نزاع تتم تسويته بالطرق الإدارية.. الدولة المصرية لم تكن تمتلك أبدًا حق السيادة على أى شبر بالجزيرة، وبالتالى لا موضع لحديث التنازلات.. ذلك مبدأ مستبعد فى السياسة الخارجية لمصر.