رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى جذور المحنة اللبنانية (1)


يمر لبنان بمحنة، إن لم يخرج منها سالمًا، كما يتمنى له كل محبيه، ستدفع به، وبشعبه، دفعًا، إلى أتون أوضاع بالغة الخطورة، لا يعلم أحدٌ كيف، ومتى، وبأى وسيلة يُمكن أن يُتاح له الخروج منها، بل وأقول، عن يقين، إن لبنان وشعبه لن يكونا وحدهما رهينى هذه المحنة، وإنما معهما، وربما قبلهما دول وشعوب المنطقة بأسرها، التى يبدو، على عكس ما يتوقع البعض، أن مصائرها باتت مُرتبطة بأشد مما كانت فى أى لحظة سابقة، وإلى حد غير مُتَصَوَّر ولا مسبوق.
وبعيدًا عن الظنون والشائعات، والتخيُّلات والتصورات، التى تملأ أجواء البلد المنكوب والمنطقة، وهو أمر طبيعى فى مثل هذه الظروف، إذا أردنا وضع اليد على المُجرم الأصيل والحقيقى، لا التابعين والمُنفِّذين الصغار، فلنفتش عن «المستفيد»، كما يُوَجِّهُنا دائمًا من يُريد أن يفك تعقيدات لغز اشتد استعصاؤه، وزادت تعقيداته، كلغز جريمة تفجير مرفأ بيروت البشعة، وما أحدثته من دمار وخراب، يعادلان ما يُحدثه انفجار نووى صغير، كما وصفه البعض، من نتائج وآثار، وترتَّب عليه سقوط آلاف المصابين والضحايا الأبرياء، فضلًا عن أذى مريع حاق بما يقرب من نصف بيروت، فأحالها إلى أرض يباب، تنعق فيها البوم والغربان، بعدما كانت دائمًا عاصمة للمرح والفرح، وأرضًا للبهجة والسعادة.
ولنقل، «من الآخر»، كما يُطالبنا دائمًا «أولاد البلد»: ليس هناك من مُستفيد من وقائع تدمير بيروت، على هذا النحو البشع، سوى طرف واحد، وهذا الطرف لم ينقطع لحظة، طوال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن الماضى، هى سنوات عمره كله، عن التحرش بدول المنطقة وبالبلد المجاور: لبنان، وقد تمكَّن هذا الفاعل، المجهول المعلوم من تدمير وإزاحة، أو على الأقل إرباك واستنزاف، عدد مهم من ألد خصومه وأعدائه، كالعراق وسوريا، ونجح فى تفكيك جانب كبير من قدراتهما العسكرية والاقتصادية، بل والروحية والمعنوية أيضًا، دون أن يخوض معركة مُباشرة معهما، مُعتمدًا على الدعم غير المحدود الذى يناله من راعى البقر الأمريكى الجامح ومُعسكره «النيوليبرالى» النهَّاب، كحارس لمصالحهما الاستراتيجية العظمى، على أبواب ممالك النفط، وممرات التجارة العالمية.
إنه العدو الإسرائيلى الذى ما انفكت تُحركه دوافع الثأر لهزائمه فى لبنان، واضطراره إلى الانسحاب، خائبًا، أكثر من مرّة، من الأرض اللبنانية، دون أن يستطيع فرض إرادته، وإملاء شروطه، وتحقيق مطالبه المُلحّة، وفى مقدمتها إنهاء قوة المقاومة الوطنية المُستعصية، وتصفية طوابيرها، ونزع أسلحتها، وتفكيك روابطها، وفتح لبنان أمامه لتطبيع كل العلاقات، وتحقيق خُطوة مُهمة على طريق تشكيل «الشرق الأوسط الجديد»، الذى تقوده إسرائيل، على نحو ما أوضح «شمعون بيريز» فى كتابه الكاشف، الذى يحمل هذا الاسم.
وأول دليل على ذلك أن الأجهزة التابعة، والقوى العميلة لدولة الاحتلال الصهيونى، فى لبنان وخارجه، وبمجرد وقوع الانفجار الضخم، وقبل أن ينتهى دويِّه الهائل، حاولت «تلبيس» حزب الله، وهو هنا الخصم الرئيسى المُستهدف، تبعات الجريمة، بالزعم أن الانفجار وقع فى مخزن لصنع المتفجرات يحتوى مواد تعود ملكيتها إلى الحزب، ولما اتضح زيف هذا الزعم، وثبت أن المواد التى انفجرت لا تمت للحزب من قريب أو بعيد بصلة، سارعوا بالقول إن المُستهدف منه كان مخزنًا للأسلحة بالميناء يخص حزب الله، وهو اتهام «عبيط»، فأسلحة حزب الله، كما هو معروف لا يمكن أن تأتيه على متن سُفن تتهادى فى طريق بحرى طويل، لترسو ويتم تخزينها فى ميناء مفتوح ومكشوف لكل الأعداء، فيُصبح هدفًا سهل الاصطياد على هذا النحو الساذج.
والمهم أن حزب الله، بمجرد وقوع التفجير، أصبح المُتهم الرئيسى، وعليه أن يدرأ عن نفسه شبح التهمة الجائرة، بدلًا من إعمال القاعدة الشهيرة: «فتش عن المستفيد»، والتى وحدها يمكن أن تُشير لنا بإشارة صحيحة إلى اتجاه المجرم الفعلى! فحزب الله، ككيان مُسلَّح ومتمرس، ليست له مصلحة، ابتداء، من تفجير يضعه فى موقع الاتهام أو حتى الاشتباه والمُساءلة، ويُحيطه بأنياب مُتلمظة من كل جانب، خاصة أن نصيره وسنده الأساسى، إيران، فى وضع حرج، مُحارب أيضًا من نفس مُعسكر الخصوم والأعداء، وعلى رأسه الولايات المتحدة وإسرائيل.
لكن المأزق ليس مأزق حزب الله وحده، وإنما مأزق كل المنظومة اللبنانية، السياسية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية، بكاملها، التى حملت منذ تكوينها فى القرن الماضى، «جينات» أزماتها المُميتة، وفى مُقدمها «جين الطائفية» اللعين.