في ذكراه.. نور الشريف ينحاز للعقل في أفلامه

في كل عمل من أعماله السينمائية٬ صبغ الفنان المثقف نور الشريف، والذي تحل اليوم الذكري الخامسة لرحيله عن عالمنا٬ قطعة من روحه ووجدانه. فأمام كل فيلم من أفلامه أنت ترى الشخصية التي يؤديها نور وتنحسر تمامًا صورة الممثل الأنيق صاحب الملامح الوسيمة. هي أدوار تشربها وسبر أغوارها حتي النخاع٬ وليس فقط التقمص أو التشخيص إنه هنا يستحضر شخوصه فنراهم هم علي حقيقتهم.

قدم نور الشريف عشرات الأدوار السينمائية والتليفزيونية والإذاعية٬ وعلي خشبة المسرح صال وجال٬ وإن كان عرض "اللجنة" (عن رواية للكاتب صنع الله إبراهيم بنفس الاسم)٬ الذي أجري عليه البروفات بالفعل قد ترك حسرة في نفسه لعدم تمكنه من إخراجه إلي النور.علي أن هناك أدوارًا فارقة في مسيرة "الشريف" الفنية، إليكم إطلالة عليها في هذا التقرير.


ــ لقاء هناك
عن قصة لثروت أباظة٬ قدم نور الشريف فيلمه "لقاء هناك" في عام 1976، من إخراج أحمد ضياء. يبدأ بمشهد لإفطار رمضاني يضم عائلة مرقص وزوجته وابنته إيفون٬ وعائلة سلطان الذي تجمعه صداقة عمر بمرقص٬ يسأل الجميع عن "عباس" نور الشريف٬ لتنتقل الكاميرا لكليلة الهندسة حيث يدرس٬ وما أن ينهي الأستاذ المحاضرة ليلحقوا بالإفطار٬ يشعل عباس سيجارته مستنكرًا: ده بقى كلام أستاذ في القرن العشرين ميكملش الدرس عشان الفطار؟!. فيرد عليه زميله: شيء طبيعي يا أخي٬ فيردف عباس: العلم لازم يحطم الخرافات دي٬ فيرد زميله بدوره: العلم عمره ما كان بيعادي الدين. يستفهم عباس: إزاي؟ فيرد زميله: لا وحياتك إنت راجل فاطر وأنا صايم..أسمع السيجارة دي لا تدل علي إنك راجل متحرر دي قلة ذوق. نلحظ أن زميل عباس لم يكفره أو يحتد عليه أو يهدده بهدر دمه لأنه أعلن إفطاره المتعمد. فالوهابية السلفية لم تكن قد انتشرت بعد في مصر كما هي الحال الآن.  

تعود الكاميرا مرة أخري لمائدة الإفطار٬ تعزم أم عباس ضيوفها، قائلة: يا جماعة كلنا صايمين والصايم مش عاوز عزومة٬ فترد عليها أم إيفون: اتعشينا وصومنا والمسيح الحي ما اتسحرنا٬ فيقول والد عباس: عليه الصلاة والسلام. يدخل عباس فيمازحه مرقص: باين عليك فاطر يا عباس٬ فينتفض الأب: وهو يستجري ده بيصوم وهو عنده سبع سنين. يتبادل عباس وإيفون نظرات مختلسة نلمح منها علاقة حب بينهما٬ فهل ستكتمل أم أن الدين سيقف عائقا بينهما رغم أن عباس لا يعترف سوي بالمادية والطبيعة.

في أكثر من مشهد يجمع عباس وصديقه داخل أحد البارات أو في منزله بصحبة فتاة ليل٬ تدور بينهما المناقشات حول الحرية، يهاجم عباس صديقه ويواجهه بمساوئه وكيف أنه يحرص علي الصلاة ويواظب عليها بينما الخمر لا تفارق يده. حتي أنه ما أن سمع آذان ظهر الجمعة فخرج مهرولا ليلحق بها٬ وعندما يسأله عباس كيف ستصلي وأنت سكران فيرد بأن الصلاة تذهب سيئاته.

ويرفض عباس هذا المنطق المعوج٬ بل وتواتيه الشجاعة أخيرًا أن يرفض أمر والده له بالصلاة بعد أن ترك المسجد وسط خطبة الإمام. وكان مشهد شديد العبقرية يلخص الدائرة المفرغة التي ندور فيها عن التدين الشكلي. فبينما الإمام يخطب نرى عباس متململ بل وذهنه سابح هناك في الفضاء مع مشاهد أول رجل يحط بقدمه فوق القمر.

وفي مواجهة أخيرة ينتفض عباس ضد والده الذي أكرهه علي الصلاة والصوم..ألخ٬ فعباس لم يختر أن يتجه بقلبه إلي الله بل فرض عليه واجبات دينية يؤديها بإكراه٬ حتي وفي لحظات نادرة عندما يمس القرآن قلبه فيسأل عن اسم المقرئ يواجه بالتهكم. علي أن نهاية الفيلم وفي مشهد تتعرض فيه حياة زوجته ليلي للخطر نري عباس أخيرا يعود إلي الله باختياره الحر وليس بفرض وإكراه من الآخرين.


ـــ الرقص مع الشيطان
في عام 1993 يعود للشخصيات الجدلية ليقدمها عبر الشاشة الزرقاء في فيلمه "الرقص مع الشيطان"، من خلال شخصية د. واصل عبدالله الرفاعي٬ الذي تلقى تعليمه في الخارج٬ وصبغت الأفكار المادية قناعاته في الحياة٬ فلا يؤمن أو يسلم بأي حقيقة سوي تلك التي يراها ويلمسها بحواسه ويدركها عقله.

في أول أيام عودته لعمله بالجامعة٬ يحدث الصدام بينه وبين العقليات المتحجرة، والتي أصابها الجمود عبر عقود طويلة. ففي الحوار الذي يدور بين واصل وبين عميد الكلية عن أهمية إطلاق العنان للخيال٬ يقاطعه العميد بأن كلية الصيدلة لا مجال فيها للخيال! فيعاود واصل رده العقلاني المستند للمنطق: طول ما العقل والحيال موجودين لا يمكن لشيء أن يقف أمام الإنسان.

إلا أن عميد الكلية بدوره يواصل كلامه عن عجز العلم عن تفسير أشياء كثيرة حول الإنسان في الكون٬ مستشهدًا بالآيات القرآنية، "واصل" ينتصر وينحاز للعقل، بينما عميد الكلية متمسك بنظرية الإعجاز العلمي في القرآن، وأنه اكتشف كل ما نعيش فيه من ثورة علمية وتكنولوجية منذ 14 قرنًا، وهو ما يرفضه الأول رفضًا قاطعًا.