رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخراب يدق باب تركيا



خط أحمر جديد وضعته مصر واليونان، أمام الرئيس التركى، بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فى خطوة تقطع الطريق أمام أحلام ذلك الأحمق التوسعية، وتقضى على أطماعه فى نهب جزء من موارد شرق البحر المتوسط، كان يراهن عليه، لإخفاء فشله فى إدارة تركيا، وإبعاد شبح الخراب، الذى لن يبتعد إلا لو قام مَن يستعملونه بالتخلى عنه أو التخلص منه.
قلنا، الإثنين الماضى، إن النتيجة الحتمية لبقاء أردوغان على عرش تركيا، هى بكاء الأتراك، قريبًا، على أطلالها. وأمس، الجمعة، هبطت الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها، على الإطلاق، وفى البورصة، صار مؤشر الأسهم هو الأسوأ بين أسواق الأسهم فى الدول النامية. ومع إصرار الرئيس التركى على خفض أسعار الفائدة، دفع القلق من انخفاض الاحتياطى النقدى، رأس المال الأجنبى إلى الهروب. والأسوأ قادم مع ارتفاع التضخم، ومحاولة الحكومة الحصول على ائتمان رخيص لتشغيل الاقتصاد، الذى كان هشًا بالفعل قبل الوباء.
الركود الناتج عن وباء «كورونا المستجد» أظهر نقاط ضعف الاقتصاد التركى، وكشف عن كوارث سبق أن عرضنا بعضها ويطول شرح بعضها الآخر. وكلها تؤكد أن الخراب يتقدم بقوة وثبات، نحو تركيا، وأن عملتها ستواصل التراجع بعد أن انخفضت قيمتها إلى ٧.٣٢٢ مقابل الدولار، قبل ظهر أمس، وهى القيمة الأدنى فى تاريخها، مقارنة بأدنى مستوى سابق: ٧.٢٦ فى مايو الماضى. وبينما كان أردوغان يأمل فى تدفق النقد الأجنبى من خلال الصادرات والسياحة، خاب أمله، بسبب مقامراته الخارجية وتعامله برعونته المعتادة وغبائه المعهود مع الوباء.
الإحصاءات الحكومية تقول إن تركيا سجلت، حتى الآن، ٢٣٣ ألفًا و٨٥١ إصابة بفيروس «كورونا المستجد»، مع ٥ آلاف و٧٤٧ حالة وفاة. غير أن سنان أديامان، رئيس الجمعية الطبية التركية، اتهم سلطات بلاده بإخفاء البيانات الحقيقية المتعلقة بعدد الضحايا والمصابين. كما أكد أن الأعداد ستتضاعف مستقبلًا، بسبب عدم اتباع إجراءات التباعد الاجتماعى، والاستخدام غير السليم للأقنعة الواقية، أو عدم استخدامها على الإطلاق.
تقرير نشرته وكالة «بلومبرج» ذكر أن استمرار تآكل قيمة العملة التركية جعلها أكبر الخاسرين بين عملات الأسواق الناشئة، وأدى إلى زيادة تكلفة التأمين ضد التخلف عن سداد السندات الحكومية. كما أكد محللون أن تصاعد التوتر مع الاتحاد الأوروبى يمثل خطرًا على اقتصاد البلاد. وفى مذكرة للعملاء، كتب جيسون توفى، محلل «كابيتال إيكونوميكس»: «إذا استمرت التوترات مع الاتحاد الأوروبى فى التصاعد، فإن السقوط الأكثر حدة قادم».
تراجع قيمة العملة التركية الحاد بدأ منذ أغسطس ٢٠١٨، أى منذ سنتين بالضبط، عندما تراجع سعر صرف الليرة إلى ٧.٢٤ مقابل الدولار. ووقتها، قيل إن السبب هو توترات العلاقات الأمريكية التركية، التى لم تكن أكثر من مجرد «غلوشة» أو محاولة لإبعاد الأنظار عن سياسات أردوغان التى جعلت الاستثمار فى تركيا أقل جاذبية، ودفعت كثيرين للتخلص من الليرة التركية. وبالتالى، كان طبيعيًا أن تتراجع قيمتها بتلك الوتيرة الدراماتيكية، مع استمرار خفض الوكالات العالمية التصنيف الائتمانى لتركيا وعدم قدرتها على الوفاء بالالتزامات المالية.
الموضوع يمكن تلخيصه فى أن المستثمرين فقدوا الثقة فى الثلاثى المتحكم فى الاقتصاد التركى: الرئيس رجب طيب أردوغان.. برات آلبيراق، صهره، ووزير ماليته.. والبنك المركزى. الذى خضع، ولا يزال، لضغوط عدم رفع أسعار الفائدة بزعم أن المعدلات الأعلى تؤدى إلى ارتفاع التضخم، بعكس ما تقوله النظريات الاقتصادية. وغير العجز الكبير فى الميزان التجارى، فإن أردوغان جعل بلاده طرفًا فى كل الحروب، التى تشهدها المنطقة، ما جعلها مكانًا غير آمن للمدخرين أو المستثمرين.
بعد ساعات من أدائه اليمين الدستورية رئيسًا للبلاد، بصلاحيات مطلقة، فى ٩ يوليو ٢٠١٨، قام أردوغان بتعيين زوج ابنته وزيرًا للخزانة والمالية، مع تغييب مؤيدى اقتصاد السوق وتعزيز النظام الاستبدادى، حتى يتمكن من إحكام قبضته على السياسة النقدية، وتقويض استقلال البنك المركزى. وبينما كانت الليرة تسجل انهيارًا تلو الآخر، ظل «آلبيراق»، يتثاقل ويترقب، قبل أن يطرح، بعد فوات الأوان، برنامجًا هزيلًا، فى ١٠ أغسطس ٢٠١٨، جاء خاليًا من أى مقترحات محددة للإصلاح، وأثبتت الشهور الأربعة والعشرون الماضية، فشله بالثلث.
تجاوز الأزمة كان يحتاج إلى قرارات اقتصادية، سياسية، ودبلوماسية متزامنة. لكن، مع رعونة «أردوغان» أو مَن يستعملونه، لم يعد أمام الأتراك، غير الإطاحة به، إنقاذًا لبلدهم من الأزمات المتكررة، التى تعيشها، وفتحًا لصفحة جديدة مع دول العالم، وتحديدًا دول المنطقة. ولأن الأتراك، شعبًا، سياسيين وعسكريين، صاروا عاجزين عن فعل ذلك، بات الرهان على إدراك المستعمِلين، بكسر الميم الثانية، أن تكلفة عدم تخلصهم من ذلك الأحمق، ستكون أفدح بكثير من خسارة عبدٍ، فشلوا فى تربيته، وما عاد بإمكانهم استعماله.