رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا ما زال الاستعمار رومانسيًا؟!



هل من المناسب أن أكتب عن القمر بينما ما زالت عشرات الأيادى تبحث بين الأنقاض عن بشر مفقودين أو أى بقايا لحياة؟، هل لا تكفى صدمة واحدة وفجيعة واحدة كى ندرك أن الخراب من الداخل، وأن العطن يكمن فى الطينة التى منها جئنا؟ هل لم يكف لبنان ما حدث لها من الأيدى الغريبة، التى تسللت لنخاعها تحت دعاوى الإنسانية والمقاومة والحماية، فأصبحت دويلات داخل دولة؟ هل حقًا هناك من يطالب بعودة الانتداب الفرنسى؟ يقولون إن عريضة وقعها خمسون ألف لبنانى دعت الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لعودة لبنان تحت الحماية الفرنسية، فهل كفرنا بالحاضر وبدلًا من القفز للمستقبل نرتد للماضى؟.
بعد الخامسة مساء يوم الثلاثاء عرفت بحدوث انفجار كبير فى بيروت، كنت على بعد مسافة ٦٧٣ كم من الحادث، حيث أخذت أسير فى مياه خليج نبق وأتأمل الشعاب المرجانية، منتظرة سمكة ملونة تمرق من جانبى، بحذر شديد وخطوات محسوبة، أخذت أتنقل بين الحدائق المرجانية، متفادية المنخفضات الرملية بين كل مجموعة مرجان، دعانى زوجى للخروج من الماء، لكنى أصررت «لن أغادر حتى أرى شروق القمر».. مر نصف ساعة على غياب الشمس ولم يظهر فى السماء، أشرت لتبة أو تل فى قلب الخليج وأخبرته بأنى رصدت شروقه أمس فى السابعة إلا الربع، وأن لونه كان أحمر دمويًا فى أثناء صعوده، حتى استوى وتخلص من كل شوائبه والأوردة التى ملأت حدقتيه قبل أن يفيق ويكتمل ضوؤه، فلماذا تأخر اليوم..؟ هل لتأخره علاقة بانفجار بيروت؟ انتظرت ربع ساعة، وخرجت وتوجهت إلى غرفتى، لكن لم أكف عن التلفت لجهة الشرق، حيث أنتظر وأستنكر غياب القمر.. قررت أن أبحث عن مواعيد شروق القمر على المواقع الفلكية، ظننت أنها مواعيد ثابتة أو متقاربة مثل شروق الشمس، لكن ما وجدته هو أن شروق القمر قد يزيد أو ينقص موعده بالساعات، حسب حالة القمر. وأنه لم يتأخر فى الظهور ذلك المساء، فقط أنا كنت أنتظر فى الوقت الخطأ.
هل أردت أن أصنع أسطورة، قصة، حكاية؟ أربط بها بين بيروت والقمر؟ ربما.
وموقفى من شروق القمر يشبه الكثير من مواقفنا وأحكامنا المسبقة والصور الذهنية التى لا نعتقد أننا أسراها، وقد زاد من إحساسى بالقيد وأننا مكبلون بماهيتنا وما نحمله داخلنا عندما قرأت عن الدعوة لعودة الانتداب الفرنسى للبنان، لماذا؟!
ذكرنى هذا بمحاضرة بعنوان: لماذا ما زال الاستعمار رومانسيًا؟! للمؤرخ الماليزى: فاريش أحمد نور، الباحث التاريخى فى الفترات الاستعمارية لجنوب شرق آسيا فى القرن التاسع عشر، والذى يرفض فى كتاباته الهواجس الثقافية ذات التاريخ الرومانسى، والحنين الخبيث للاضطهادات السابقة، وجمع فى كتبه وأشهرها «ما لم يقله لك معلموك» وثائق وتجارب وحكايات تدين الاستعمار أيًا كان مسماه أو شكله.
تساءل «فاريش أحمد نور» فى محاضرته «لماذا يبدو أن هناك أفكارًا معينة، ووجهاتُ نظرٍ معينة لن تختفى أبدًا؟، لا أدرى لماذا، أنا مهتم لفهم السبب وراء أن بعض الناس- ليس جميعهم- فى آسيا ما بعد الاستعمار ما زالوا متمسكين برؤيةٍ رومانسيةٍ إلى حد ما للماضى الاستعمارى، ويرون ذلك من خلال عدساتٍ ذات لونٍ وردىّ كما لو كان وقتًا خيريًا أو لطيفًا أو ممتعًا، على الرغم من أن المؤرخين يعرفون حقائق العنف والقمع والجانب المظلم من تلك التجربة الاستعمارية بأكملها. لماذا لا يزال هناك بعض الذين يرغبون بطريقة ما بالتمسك بهذه الفكرة المدعية بأن الماضى لم يكن مظلمًا، وكان فيه جانب رومانسى».
هذه الفكرة تنطبق علينا نحن العرب أيضًا. لماذا الحنين الدائم لما هو خارجنا، الخلافة، الانتداب؟.
يطرح المؤرخ الماليزى رؤية مفادها أننا ما زلنا، بطرق عديدة، نعيش فى الظل الطويل للقرن التاسع عشر.
كلنا كائنات اجتماعية، نحن كائنات تاريخية. أنت، أنا، جميعنا، نحمل التاريخ فينا. إنه فى اللغة التى نستخدمها، إنه فى الخيال الذى نكتبه. إنه فى الأفلام التى نختار مشاهدتها. إنه فى الصور التى نستحضرها عندما نفكر فى «من نحن؟ وما نحن عليه». نحن كائنات تاريخية. نحمل التاريخ معنا، والتاريخ يحملنا بدوره. ولكن فى حين أن التاريخ يحددنا، فى اعتقادى الشخصى نحن لسنا بحاجة لأن نقع فى فخ التاريخ، ولا نحتاج إلى أن نكون ضحايا للتاريخ.
فخ التاريخ، الدائرة الجهنمية التى علينا وعلى كل اللبنانيين السعى للخروج منها، وأن نفك طوق الفساد أو الاستعمار.. فحتمًا يوجد حل لن يجده سوى اللبنانيين ومن يعانون مشكلاتهم.. فالقمر له مواعيد شروق ولا يتأخر، فقط علينا أن نعرف مواعيده ولا نتوهم ما ليس واقعًا.