رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مستقبل العولمة.. رؤية صينية «2»




أشرنا فى المقال السابق إلى التحليل الذى قدَّمه الباحثان الصينيان المُهِمَّان: «هو يوى شيانج» رئيس معهد الشرق الأوسط فى جامعة الدراسات الدولية ببكين، و«ووسى كه» الدبلوماسى، والمبعوث الصينى الخاص الأسبق للشرق الأوسط، لمصير «العولمة» فى أعقاب انتشار جائحة «كورونا» المُستجد «كوفيد- ١٩»، تحت عنوان: «ما بعد الوباء: العودة إلى جزر منعزلة»، أم «المصير المُشترك»، وهو مقال مهم يعكس وجهات نظر صينية خبيرة فى مستقبل «العولمة»: هل إلى أفول وزوال، أم إلى تجاوز وتقدُّم؟!
ولا يُمارى الباحثان فى أن معطيات ونتائج التفاعل مع وباء «كوفيد- ١٩»، قد تُعَزِّزان اتجاه مناهضة «العولمة» فى السنوات المُقبلة، وهما لا يستبعدان، أثناء الوباء أو بعده، أن تكون هناك زيادات فى أسعار كمية كبيرة من البضائع فى التجارة الدولية، واختلال مؤقت لبعض السلاسل الصناعية، وإعادة تنظيم للقوى الدولية، واضطرابات سياسية فى بعض البلدان.
وهما يُقرّان بأن وباء «كورونا» جعل العيوب العديدة لـ«العولمة» السابقة أكثر وضوحًا للناس، ففى عملية «العولمة» تلك، تمتَّعت الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة «الأوليجارشية» المالية لها، بأكبر الفوائد، فى حين لم تحصل بعض البلدان، بل وبعض الناس العاديين فى الولايات المتحدة، على الأرباح المُستَحَقَّة من «العولمة».
وهما يتوقعان أن تكون عملية استعادة الاقتصاد «العالمى» عافيته عملية طويلة ومؤلمة للغاية إذا تم الأمر فى «نظام لا يعتمد على سلاسل إنتاج وإمداد عالمية» وفى «عالم مُجزأ»، وهو وضع من شأنه أن يُطيل أمد الركود الاقتصادى والتدهور الاقتصادى الناجم عن الوباء.
إن الترابط بين جميع الأشياء أصبح السمة الأبرز للأنشطة فى عالم اليوم، كما يقول الباحثان، وتَقَدُّم إنترنت الأشياء، والتغيرات الناتجة فى طرق الإنتاج والاتصال، والتطور السريع للذكاء الاصطناعى، والبيانات الكبرى، والحوسبة السحابية، وتقنيات الجيل الخامس فى جميع أنحاء العالم، أمورٌ لا رجعة فيها، وهى تدفع باتجاه جعل الترابط والتوافق البشرى مُلائمًا ومتينًا، و«تقطيع السوق العالمية» سيمنع هذه التقنيات الجديدة من العمل وإنتاج المنافع المُستحقَّة، ويحرم البلدان من الحصول على فوائدها الاقتصادية، لأن «البلدان التى تُريد البقاء على قيد الحياة فى هذا العالم المُترابط، والاستمتاع بالكفاءة والراحة التى تجلبها، كما يقول الباحثان، لا يُمكنها إلّا الدخول بنشاط إلى السوق العالمية والسلسلة الصناعية العالمية وقبول اختبار عصر العولمة»!
وعلى ما سبق، يرى الباحثان أن وباء «كوفيد- ١٩» لا يجب أن يكون دافعًا لإنكار «العولمة»، وإنما يجب أن تتخذه البشرية كفرصة لإعادة التفكير فيها وتحسينها، وجعلها أكثر نفعًا لتنمية البشرية جمعاء، فالفيروسات «لا تعرف حدود البلدان، وهى العدو المُشترك للبشرية»، وفقط يمكن الانتصار فى المعركة، من خلال التخلّى عن التحيزات الأيديولوجية والعرقية والدينية، وتعزيز تنسيق السياسات، والعمل معًا من أجل الوقاية من الوباء والسيطرة عليه، ومساعدة الدول النامية ذات الأنظمة الصحيّة الضعيفة لتحسين قدرتها على الاستجابة، وتحسين أداء المنظمات الدولية المعنية بهذا الأمر، كمنظمة الصحة العالمية، التى لعبت دورًا مهمًا فى تقديم المساعدة المادية وتنسيق الأعمال، وتلخيص الخبرات وتبادل المعلومات: «فلا يُمكن تحقيق النصر العالمى فى معركة مكافحة الوباء إلّا إذا تغلبت كل دولة على الفيروس».
ويتوقع الباحثان أنه فى فترة ما بعد الوباء ستدخل على «العولمة» و«الحوكمة العالمية» تعديلات تاريخية جديدة، لكى تكون أكثر انسجامًا وشمولًا مع الاحتياجات الإنمائية لجميع شعوب العالم، وخاصةً البلدان النامية، فـ«لا ينبغى أن تكون أداة يسعى من خلالها بعض القوى الكُبرى إلى تعظيم مصالحها الخاصة».
و«العولمة الجديدة»، أو «عولمة» ما بعد الوباء، ستُميزها عن «العولمة القديمة»، عولمة ما قبل الوباء، ثلاث سِمات رئيسية، يرصدها الباحثان فى التالى:
أولًا: سيزداد تأثير دور الدولة على السوق، أى ستكون هناك ظاهرة «الحكومة الكبيرة»، حيث سيزداد التدخُّل الوطنى فى السوق، وقد يندلع المزيد من «الاحتكاكات التجارية».
ثانيًا: ستشتد المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكُبرى، مما سيؤدى إلى إعادة تنظيم النظام والوضع الجيو- اقتصادى، والجيو- سياسى، فى مناطق مُختلفة، مع ردود فعل مُختلفة فى شرقى آسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
ثالثًا: سيُصبح الابتكار والمنافسة التكنولوجيان أكثر حِدّة، وستظهر تقنيات ونماذج وأشكال جديدة فى الصناعات والمجالات المُختلفة، ومع تسارع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإنها ستُحدد أيضًا وضع البلدان فى المنافسة الدولية.
ويُنهى الباحثان القديران الدراسة المُهمة، التى أظنها تُعبر بدقة عن وجهة النظر الرسمية الصينية، بالقول: «لقد قلل وباء (كوفيد- ١٩) من سرعة (العولمة)، لكنه لن يُغير اتجاه (العولمة) واتجاه العصر، وعلى الرغم من أن الحمائية التجارية والاحتكاك التجارى قد يشتدّان فى المستقبل، سيظل اتجاه تطور رابطة المصير المُشترك للبشرية طويل الأمد ومُستدامًا، وستظل العولمة توجُّهًا رئيسيًا للمجتمع البشرى».