رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الأدب الرهبانى الممتع


أود فى البداية أن أشرح بعض المفردات الرهبانية والإنجيلية التى وردت بالمقال: «القلنسوة» هى غطاء رأس الراهب وهى تشبه غطاء رأس الأطفال تمامًا وهى بذلك تشير إلى روح البساطة التى يجب أن يتحلى بها الراهب، «المنطقة» هى حزام يُصنع من الجلد أو من الكتان ويُدعى بالقبطية «زوناريون» يشد به الراهب وسطه فى إشارة دائمة إلى اليقظة وحياة الاستعداد الدائم للجهاد الروحى، «زى التكريس» هو الزى الأسود الذى يرتديه الراهب، «طعام مرثا» مرثا هذه وشقيقتها مريم كانتا أختين للقديس لعازر حبيب السيد المسيح وكانت مريم تجلس مستمتعة بتعاليم السيد المسيح بينما كانت «مرثا» منشغلة فى خِدم كثيرة. وطلبت مرثا من أختها مريم أن تساعدها، فقال لها السيد المسيح: «مرثا مرثا أنتِ تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد، أما مريم فاختارت النصيب الصالح الذى لن ينزع منها».
الرهبنة بالنسبة للراهب هى ليست «قلنسوة» و«منطقة» و«زى تكريس» فحسب بل هى حياة لها قوانينها الجادة ولها مفهومها العميق ولها رسالتها المقدسة. فقوانينها: تكمن فى النسك والعبادة والوحدة والانشغال بالأمور الإلهية، ومفهومها يكمن فى أنها الطريق إلى السماء تساعد فيه الخلوة والتأملات والجهاد المستمر حتى تتحد بالله، ورسالتها: تكمن فى خدمة الجميع دون الاختلاط بالجميع، ومحبة الجميع دون الإقلال من محبة الله، والاهتمام بضعفات الآخرين دون الانصراف عن الاهتمام عن ضعفات النفس. لكن الشىء المُحيّر كيف أكون فاقدًا تلك المقومات الرهبانية الصادقة ثم أحدّث الرهبان عن «بعض المبادئ الرئيسية التى يمكن أن تقيس بها رهبانيتك»؟ ففاقد الشىء لا يعطيه.
الأدب الرهبانى من الآداب الممتعة ولا ينخرط فيه إلا من عاش الحياة الرهبانية بصدق. من هنا جاء رهبان الغرب ليتتلمذوا على كتابات الرهبنة المصرية. فنجد الأسقف «بلاديوس» Palladius «وُلد عام ٣٦٤م فى غلاطية»، جاء إلى مصر وعاش فى البرارى المصرية بناء على تكليف من «لوساس» Lausus الذى كان من كبار حاشية الإمبراطور «ثيودوسيوس الثانى». وبعد أن عاش الأسقف بلاديوس بين الرهبان المصريين كتب كتابه الذى يحمل اسم «فردوس الآباء». وقد أطلق «بلاديوس» على هذا الكتاب كلمة «فردوس» التى تعنى «البستان»، وأن «بلاديوس» أراد أن يوحى إلى القراء بأن كتابه يشبه «بستانًا روحيًا»، أزهاره هى القصص التى جمعها عن رهبان البرية المصرية، كما أن هؤلاء الرهبان هم أنفسهم أزهار «بستان الله».
وفى حوالى عام ٣٧٠م عندما زار الإسكندرية لأول مرة تعرف على القديسين إيسيذوروس «كان يبلغ من العمر ٩٧ عامًا»، وديديموس الضرير «كان يبلغ من العمر ٨٠ عامًا»، فأفاد كثيرًا من علاقته بهما، لأنهما كانا صديقين للقديس العظيم الأنبا أنطونيوس، أب رهبان العالم.
وفى عصرنا الحالى نجد الراهب أنطونيوس السريانى «فيما بعد البابا شنودة الثالث» أحد الرهبان الجادين الذين تتلمذوا على هذا الكتاب. وعندما صار بطريركًا لم يشأ أن يحرم أولاده الرهبان ولا شعبه من نعمة مطالعة هذا الكتاب. فأسند إلى الأستاذ «رشدى السيسى»، سكرتير تحرير مجلة «الكرازة» فى عصرها الذهبى، مسئولية ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، ثم قام بنشره على حلقات على صفحات مجلة «الكرازة»، وكانت كل حلقة تشغل صفحة كاملة.
حدث بعد ذلك أن سافرت إلى كندا للدراسة وكنت أذهب للصلاة بكنيسة القديس مرقس الواقعة بمدينة «ديترويت»- على الحدود مع مدينة «وندسور» الكندية- وكنت من المستمتعين بمطالعة تلك الحلقات. فقمت بتجميعها ثم طلبت من كاهن الكنيسة ضرورة الاهتمام بطباعتها ونشرها. وفعلًا تم هذا العمل فى أغسطس ١٩٨١ قبل أن أعود لأرض الوطن بثلاثة أشهر. وقد سُر البابا شنودة الثالث بهذا العمل، بل مدحه ووافق على طلبى فى إعادة طباعته فى كتاب شامل لكن العمر لم يمتد به.
من الآباء الرهبان الذين تتلمذوا على كتابات آباء الرهبنة الأولين الأب مينا البراموسى المتوحد «فيما بعد البابا كيرلس السادس» الذى تتلمذ على كتابات مار إسحق السريانى، وكم كان يردد كثيرًا الكثير من أقواله، حتى إنه عندما أسس دير القديس مينا بمريوط أسند إلى والدى الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨- ١٩٧٩» أن يكتب بخطه البديع الكثير من كتابات مار إسحق السريانى، وقام الدير بوضعها داخل إطار زجاجى وتم تعليقها فى أنحاء حوائط الدير ليطالعها الآباء الرهبان.
وفى أيامنا هذه رأينا بيننا راهبًا جادًا ومحبًا للأدب الرهبانى يحمل اسم الأب كيرلس البراموسى الذى أقامه البابا شنودة الثالث أسقفًا على المنيا باسم «الأنبا مكاريوس» أى «الطوباوى» وهو اسم على مسمى، وصار يخدم أولاده بالمنيا بأبوة صادقة، ورأى فيه شعبه «الأمومة الحقيقية للكنيسة»، لكن عدو الخير لا يتركه يعمل فى هدوء، فتتوالى عليه الحروب، لكنه مسنود بمعونة إلهية التى تهزم حصون الشر. اعتاد الأنبا مكاريوس- منذ فترة- أن يسجل لنا العديد من الآداب الرهبانية الرائعة، ومن محبته الأبوية الصادقة يرسل لى ما يكتبه، فاستمتع بها كثيرًا، وكلما تسنح لى الفرصة أقوم بنشرها. ومن بين ما أرسله لى حديثًا موضوع «مقالات فى التكريس».
تحت عنوان «الجوهرة الثمينة»، كتب يقول: الراهب هو الشخص الذى باع كل ماله، ليشترى الكنز الذى وجده فى حقل هذا العالم، واللؤلؤة الكثيرة الثمن التى فى عمق بحره، ومن ثَمّ ذهب إلى الملك ليقدمها له من البرية، يقدم له حياته الرهبانية، التى وجدها فى الصلاة الدائمة فى حديث لا ينقطع، والسجود المتواتر مع مشاعر الشكر والامتنان التى يسكبها أمامه. وجدها فى السكون الذى يمكّنه من سماع صوت الله والتأمل فى صفاته. وجدها فى الكتاب المقدس، يقرأ ويتعزى ويتحكّم. وجدها فى الخلوة حيث تصفو نفسه، فيجلس عند قدمى المسيح يسمع ويتعلم، ومن ثَمّ ينسى طعام «مرثا». هذه الجهادات أو الولائم المتعددة بدورها هى تلك الجوهرة التى اقتناها بثمن كبير، يقدمها لله عن طيب خاطر، بل حتى الضيقات والمحقِّرات التى تأتى عليه، فهى كالنار التى يفوح معها طيبه النادر الكثير الثمن، وعطر اتضاعه وصبره ومسكنته، فيصعد هذا الطيب إلى الله، ويدخل إلى عظمته ذبيحة طاهرة. إن الضيقات والتجارب هى القشرة الصلبة التى تحفظ تلك اللؤلؤة من التلف والضياع.
إن الراهب هو الشخص الذى وجد مفتاح الحياة، واؤتمن على الكنوز الإلهية التى هى مجد القديسين «الذى هو خبراتهم وفضائلهم». هو وحده عرف السر، ودخل خباء الملك وحجاله، فصارت نفسه عروسًا لله، وتبدأ حياته مع المحبوب. ولنجدن أن سفر نشيد الأناشيد يصف قصة عروس وعريس فى برية هذا العالم، حقًا يقول الآباء إنه سفر البتوليين. إنه كتاب حياة الراهب مع المسيح فى البرية. من هنا ندرك لماذا يحارب اللصوص الشياطين الراهب طوال حياته بشراسة، إنهم يفعلون ذلك علّهم يسلبونه تلك اللؤلؤة، ويطلّقون نفس الراهب من عريسها ويخرجونها من فردوسه، كما أخرجوا من قبل الأنبا يوساب السائح من فردوس السواح. إن حرب الراهب يمكن اختصارها فى جهاداته الكثيرة مقابل الشياطين الذين يودون نزع ذلك الكنز منه، وأما هو فيحتضن ذلك الكنز بقوة وهو يردد: «أنا لحبيبى وحبيبى لى».
«إن كنا فقراء من أموال هذا العالم.. فلنا الجوهرة الثمينة، اللؤلؤة الكثيرة الثمن، الاسم الحلو المملوء مجدًا، الذى ليسوع المسيح» «كما ورد فى تسبحة الأربعاء التى ترددها الكنيسة كلها».