رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الرُشدية الأباظية» موهبة استثنائية وأستاذية



٢٧ يوليو ٢٠٢٠، الذكرى الأربعون لرحيل نجم مرّ مثل كل الكرام عابرًا، خاطفًا، خفيف الزيارة، قصير العمر، أوصى بأن يُرش قبره بالريحان، وقد ملأ حياتنا بإطلالة الياسمين ورقة الفل، ودهشة البنفسج.
أربعون عامًا مرت على فنان جعلنى كلما شاهدته على الشاشة شعرت بالأسى، لأننى لم أره وجهًا لوجه، لأهديه وردة صفراء لا تذبل، يستنشق عبيرها قبل المشهد الأول وبعد المشهد الأخير.
فى مثل اليوم ٢٧ يوليو عام ١٩٨٠، توقف قلب جسور، متوهج، رقيق عن الخفقان، فأعلنت كاميرات السينما عن الحداد واعتذرت عن تصوير المشاهد إلى أن يجف بكاؤها وتتبدد حسرتها.
أربعون عامًا تمر اليوم منذ رحيل رشدى أباظة، الفنان الذى تآمرت عليه وسامته الزائدة على حاجة النساء، وموهبته المؤهلة أكثر من اللازم لكى يجلس متفردًا على عرش السينما المصرية.
شخصيته ثرية، لأنها ممتلئة بالتناقضات الممكنة وغير الممكنة، ذات موهبة مبدعة تحت النخاع، حياته قصيرة، طباعه محيرة، مزاجه متقلب، كبرياء شامخ، أليس هذا بالضبط ما يصنع النجم الاستثنائى وما يخلق البطل النادر؟.
بعد أربعين عامًا منذ الرحيل أُعيد مشاهدة أفلامه، وأندهش أننى فى كل مرة أكتشف شيئًا آخر، فى «رشدى» كان خافيًا، الفيلم هو الفيلم، المشاهد هى المشاهد، الحكاية هى الحكاية، كل شىء هو نفسه ليس به جديد، إلا «رشدى أباظة»، الذى يكره أن يعيد نفسه حتى فى الفيلم الواحد والمشهد الواحد، وكأنه كان يعلم أن حياته قصيرة فأراد أن يُولد تكرارًا، ومرارًا، فى كل مرة نشاهده ولو كانت المرة الألف، ولأن «رشدى» كان كريمًا، فإنه يريد أن يمنح لمنْ يشاهده مرات أخرى متعة إضافية، وربما هذه هى طريقته فى تقديم الشكر والامتنان، لمنْ ترك النجوم الأحياء بأفلامهم وأعاد مشاهدة أفلامه هو الذى رحل.
لا أشعر أبدًا فى كل أفلامه بأنه يكذب الكذب الجميل، النبيل، الذى نرضاه باختيارنا، وهو أنه «يمثل علينا» دورًا مكتوبًا سلفًا، ويجتهد لأن نصدقه ونحبه، هو والدور نسيج واحد، عصارة واحدة، توهج واحد، دم واحد، أعصاب واحدة، انتماء واحد.
وهذا أحد أسرار «رشدى أباظة» أنه لم يكن «يمثل» ليشتهر، لم يكن يلعب دورًا ليأخذ أجرًا، نشعر بأنه فى كل دور يبحث عن «نفسه» عن «رشدى أباظة» الحقيقى.
وليس «رشدى أباظة» الذى يفتن النساء وتعشقه الكاميرات ويسعى إليه المنتجون والمخرجون وأضواء الإعلام.
يدهشنى كثيرًا، كيف أن أدواره الصغيرة الثانوية، هى بالقدر نفسه من التألق والتأثير والجاذبية، الفارق الوحيد فقط هو المدة الزمنية وعدد المشاهد التى يظهر فيها، أما قدرته على خطف العيون والقلوب فهى الأستاذية نفسها.
بل إن هناك أدوارًا ثانوية قام بها «رشدى»، تظل باقية فى نفوسنا بعد انتهاء الفيلم، أكثر من دور البطل، منها على سبيل المثال دون ترتيبها الزمنى: «فى بيتنا رجل، طريق الأمل، موعد غرام، رد قلبى، جميلة، لا أنام، مؤامرة، حياة أو موت، سلطان، ماليش غيرك، إزاى أنساك، جعلونى مجرمًا، ارحم دموعى، تمر حنة».
ترك لنا «رشدى أباظة»، أفلامًا من بطولته، كنوزًا للسينما المصرية ومن جواهر الإبداع السهل الصعب والفن الممكن المستحيل، اختار أعمالًا تخلده على مر الأزمنة وكل دور ورشة ومدرسة اتقان لمنْ يريد الوقوف أمام الكاميرا.
من هذه الأعمال: «الرجل الثانى، الطريق، غروب وشروق، عدو المرأة، شىء فى صدرى، الحب الضائع، سر الغائب، المراهقات، امرأة فى الطريق، صراع فى النيل، صراع فى الجبل، القبلة الأخيرة، عندما نحب، خلخال حبيبى».
وكان أستاذًا يدهشنا فى خفة الظل وحسه الكوميدى البارع، هل ننسى مثلًا: «الزوجة ١٣، آه من حواء، نصف ساعة جواز، عروس النيل، المجانين فى نعيم، صغيرة على الحب».
إذا حاولنا استبدال «رشدى أباظة» بأى نجم آخر فى أدوار البطولة أو بأى ممثل آخر فى الأدوار الثانوية سنفاجأ بأننا لا نستطيع، وإذا حدث يفقد الفيلم جزءًا كبيرًا من حيويته وتألقه وتأثيره وارتباطه بالجمهور، هذا هو المقياس الأساسى إن لم يكن الوحيد لمعنى الموهبة الفنية المبدعة النادرة الاستثنائية وهى هنا مائة فى المائة «رشدية أباظية».
فى ليلة ذكرى الرحيل سأسهر مع رائعته «لا وقت للحب» مع فاتن حمامة وإخراج صلاح أبوسيف، ١٩٦٣، قصة وحوار يوسف إدريس، فى هذا الفيلم يصل «رشدى أباظة» إلى قمة الأداء وذروة استمتاعه بالتمثيل بالكاريزما المبدعة ومنتهى الحساسية لشخصية «حمزة» الثائر والعاشق فى هدوء وتناغم وجمال.
إليه.. إلى رشدى أباظة، أشكرك لأنك لم تأبه بنظرة مجتمعاتنا إلى «الراقصة» التى تعمل بالرقص الشرقى فتزوجت من ألمع راقصتين عرفناهما، «تحية» و«سامية».
إليه.. إلى رشدى أباظة، إلى ذكرى الرحيل، الذى يرسخ البقاء، شكرًا على كل هذا الإبداع الممتع الذى ينقذنى من الملل ويسعدنى فى زمن لا سعادة فيه.
من بستان قصائدى
لو لم ترحل.. كنت هزمت لحظات السأم
كنت احتملت اكتئابى.. كنت انتصرت على الألم
لو لم ترحل.. لاطمأنيت أن الدنيا
ما زالت بخير.. وبقى فى قلبى
شىء لا ينطفئ.. لو لم ترحل
لظل جسدى يشتهى السباحة.. وروحى تأنس برائحة البخور
وأوراقى فى مكانها تنادينى.. ولأحضرت لأمى أجمل الزهور