رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجل استقلال القضاء.. ورجل استغلال القضاء


فى مقال سابق كتبت عن أحمد مكى، وزير العدل فى زمن الإخوان، وتناولت الأكاذيب التى أشاعها مؤخرًا عندما ظهر فى قناة الأعداء «الجزيرة»، ليدافع عن سيده محمد مرسى، ووعدت فى نهاية مقالى «أحمد مكى عاريًا» باستكمال الحديث عن أكاذيبه بشأن اعتصام الاتحادية التى قامت الجماعة الإخوانية بفضه بالقوة، ونتج عن ذلك استشهاد بعض المصريين، وها أنا أعود إليكم لأستكمل الحديث عن الذى حدث يوم السادس من ديسمبر عام ٢٠١٢، حينما خرج الحاكم الإخوانى محمد مرسى ليلقى خطابًا للشعب، فقال إنه يعتصره الأسى والحزن بسبب أحداث العنف التى وقعت أمام مقر الرئاسة فى اليومين الماضيين، وقال إن حصيلة الأمس كانت وفاة ستة من شباب مصر الأطهار وإصابة أكثر من سبعمائة مواطن، مشيرًا إلى أن بعض المقبوض عليهم من المعتدين يرتبطون ببعض من ينسبون أنفسهم للقوى السياسية، وبعضهم من المستأجرين مقابل أموال.

وكان من الأكاذيب التى قالها فى خطابه إن هؤلاء المقبوض عليهم يزيدون على الثمانين من الذين استخدموا السلاح، وإنهم اعترفوا أمام النيابة العامة بجرائمهم وتمويلهم، وهذه الاعترافات سوف تعلنها النيابة العامة، وستعلن نتائجها التى تُجرى فى هذه الوقائع المؤسفة مع مرتكبيها والمحرضين عليها ومموليها فى الداخل كانوا أم فى الخارج.

كانت أكبر المخازى التى كللت هذا الخطاب بالعار هو أن الحاكم زعم أن تحقيقات النيابة العامة كشفت عن تمويل تم دفعه من جهات ما داخلية وخارجية للمتظاهرين كى يثيروا الدنيا فى مصر، وكأن أحدًا لا يتعلم من التاريخ، حتى ولو كان هذا التاريخ أقرب إليه من الورقة التى فى يمينه.
وسأترك محمد مرسى ليحاكمه التاريخ وسأعيش معكم فى هذه السطور فى رحاب المستشار إبراهيم صالح، ذلك المستشار الواعد الجرىء قوى الشكيمة، الذى كان رئيسًا لنيابات مصر الجديدة وقت هذا الحدث، ولكى تعرف إبراهيم صالح يجب أن تعرف من هم أصحاب القلوب التى لا تعرف للخوف طريقًا، ولكن الإنسان، أى إنسان يخاف، فالخوف فطرة فطرنا الله عليها، ولكن هناك فئة من البشر تضع خوفها وراء ظهرها وتمضى فى طريقها تواجه وتنافح عما تعتقده مهما كانت النتائج. لم يكن إبراهيم صالح مثل أحمد مكى، ولا مثل تلك الفرقة التى زعمت أنها تناصر استقلال القضاء وهى تعمل بكل قوتها لكى تجعل من القضاء شُعبة من شُعب الإخوان، ولكنه مارس الاستقلال بشكل حقيقى، كان مستقبل المستشار إبراهيم صالح أمامه، والدنيا من حوله تحذره من مغبة أن يخالف أمرًا قرره النائب العام بناء على أمر تلقاه من رئيس الدولة، وقد لا يدرى الناس أنه مثل أى إنسان يبحث عن إقامة العدل مهما كانت التبعات، لم يكن يشفق على نفسه، ولكنه كان يشفق على أسرته، فإذا ما أفرج عن هؤلاء الأبرياء الذين هم فى حقيقة الأمر مجنى عليهم، حينئذ سيفقد عمله، بل قد يفقد حياته، ولكن الذى أقسم على إقامة العدل كان جل همه قد انصرف إلى أن يكون مستقلًا فى قراره عن رأس السلطة التنفيذية. فهذا هو البطل الرئيسى فى هذا الحدث النادر، المستشار إبراهيم صالح حسين محمد حماد، وتلك هى صفاته الرئيسية، ولكننا عبر أعمارنا سنجد أن الرجال أنواع، رجل يضحى بقناعاته من أجل تحقيق طموحاته، ورجل يضحى بطموحاته من أجل التمسك بقناعاته، وإبراهيم صالح من هذا النوع الأخير، والأزمة المتعلقة بقضية قصر الاتحادية تكشف لنا عن ذلك الملمح الرئيسى فى شخصيته.. وسأميط اللثام الآن عن تلك الأحداث التى واجهها هذا المستشار الذى كان قد تجاوز الأربعين من عمره بخمسة أشهر حينها.
قبل هذا اليوم العصيب كان الإخوان قد قبضوا على العشرات من المتظاهرين ثم قاموا بتعذيبهم وسحلهم، وكان من الذين تعرضوا للتعذيب مهندس الاتصالات الشاب مينا فيليب الذى قبضت عليه ميليشيات الإخوان وأعملت فيه التعذيب والسحل، ورأينا جميعًا دماءه وهى تسيل، وشاهدناهم وهم يعذبونه عندما نجح أحد المتظاهرين خلسة فى تصوير وقائع التعذيب، وكان مينا فيليب هو مجرد نموذج من عشرات تعرضوا لنفس ما تعرض له، وسنعرف من التحقيقات التى أجرتها معه نيابة مصر الجديدة أن ضباطًا من الأمن المركزى هم الذين خلصوه منهم على أساس أنه والآخرين سيتم عرضهم على النيابة.
وفى فجر الخميس السادس من ديسمبر تلقى المستشار إبراهيم صالح، رئيس نيابة مصر الجديدة، بلاغًا بوقوع اشتباكات فى محيط قصر الاتحادية نتج عنها وقوع مئات المصابين ومقتل تسعة أشخاص، فانتقل ومعه صحبة من وكلاء نيابة مصر الجديدة إلى محيط قصر الاتحادية وقاموا بمعاينة المكان، وأثناء هذا الوقت كانت الشرطة قد تسلمت من الإخوان المتظاهرين الذين قبضوا عليهم وذهبت بهم إلى مقر نيابة مصر الجديدة.
ومر نهار الخميس، وكانت اتصالات النائب العام بالمحامى العام المستشار مصطفى خاطر تلزمه بحبس أكبر عدد من المقبوض عليهم، والمستشار خاطر يعود إلى رئيس النيابة إبراهيم صالح لينقل له رغبة النائب العام، ويظل خاطر مندهشًا من ذلك القرار السياسى الذى يريد أن يسيطر على القرار القضائى، ويصل الاستياء بإبراهيم صالح إلى أقصى مدى، وتظل الحلقة تضيق على إبراهيم صالح إذ إنه هو الذى بحكم موقعه سيقود فريق التحقيق، وهو الذى سيكون صاحب القرار، وهو الذى سيتحمل تبعات قراره.
لم يكن فى ذهن إبراهيم صالح قرار مسبق، فالتحقيقات لم تبدأ بعد، ولم يرد إليه أى دليل يساند التحقيقات، وهو رجل قانون يعرف أصول التحقيقات، ولكن الأنكى والأسوأ هو أن المستشار إبراهيم فوجئ بعدد من وكلاء النيابة يدخلون عليه حجرته، ويخبرونه بأن رئيس الجمهورية يخطب الآن، وبأنه قال فى خطبته إن النيابة حبست المقبوض عليهم، وإنه اتضح للنيابة أنهم بلطجية مستأجرون، وإن أسلحة كانت معهم، وإنهم اعترفوا على من حرضهم، وإنهم هم الذين قتلوا وأصابوا من أصيب وقُتل.
ما هذا الخبل؟! هل تتذكرون الإخوان وهم يصرخون أيام حكم مبارك ويقولون إن النيابة أصدرت قرارات حبسهم قبل أن تبدأ التحقيقات، وكانوا يذهبون إلى مجالس حقوق الإنسان ويقدمون الشكاوى والالتماسات، وقتئذ كنا نسمع كلامهم عن العدل والحق، ولكن كلام مرسى أسقط كل ما كانوا يدعونه، فعندما حكموا لا حق ولا عدل، وكان أن وقع خبر خطبة مرسى على المستشار إبراهيم صالح وقع الصاعقة، فاتصل بالمحامى العام المستشار مصطفى خاطر يستفسر منه عن هذا الكلام الذى قاله مرسى، إذ لربما قام النائب العام طلعت عبدالله بتزييف الحقائق وعرضها على مرسى دون أن يتروى، أو دون أن يسأل المحامى العام عن مسار التحقيقات، ولكن المستشار خاطر رد بأن هذه من تخرصات النائب العام أو مرسى، أو كليهما معًا، لأن النائب العام يعلم أن التحقيقات لم تبدأ بعد.
فينظر إبراهيم صالح إلى وكلاء النيابة ويقول لهم: امضوا فى تحقيقاتكم ولا تهتموا بما قاله محمد مرسى «رئيس الدولة»، أو كأنه لم يقل شيئًا، ولا يعتبر أحدكم أن هناك توجيهًا ما، فسنقوم بالتحقيقات ونتخذ القرار وفقًا لما ستكشف عنه الأوراق وما تمليه علينا ضمائرنا.
وتبدأ التحقيقات مساء الخميس، ويظل التحقيق مستمرًا ساعات، ويؤذن لفجر الجمعة، فيخرج إبراهيم صالح وحيدًا إلى المسجد المقابل للمحكمة كى يصلى الفجر، والمتجمهرون أمام المحكمة لا يعرفونه لأنهم لم يسبق لهم رؤيته من قبل، ويقف فى المسجد بين المصلين وقد اكتظ بهم، ويسجد لله ويدعوه أن يلهمه الصواب.
وتستمر التحقيقات نهار الجمعة، ويذهب المستشار لصلاة الجمعة، ويظل يلح فى الدعاء وهو ساجد لله والدعاء يخرج من قلبه قبل أن يخرج من لسانه، وقلبه يرتجف خوفًا من الله، فتبتعد صورة العبد الظالم عن مخيلته ولا يبقى فى قلبه إلا أن الله هو العدل، وأن العدل هو من المقاصد العليا للإسلام.
كان الدعاء الذى دعاه لله رب العالمين لا يزال عائشًا فى قلبه، وكانت ورقة الحبس أمامه، فليصدر الآن قرار الحبس ثم يفرج عنهم بعد ذلك، وليكن ما يكون، وبيانات أوراق الحبس جاهزة على توقيعه فقط، ووكلاء النيابة ينظرون إليه يترقبون تصرفه، ما الذى سيفعله؟ انفرد بنفسه بضع دقائق وعندما هم بأن يضع توقيعه على أوراق الحبس الاحتياطى على ذمة التحقيق، إذا به يلقى بالقلم ويمسك بالورقة ويمزقها تمزيقًا ثم يضعها فى سلة المهملات، ثم تنفس ليلتقط من الهواء شجاعته وأصدر قراره بالإفراج عن المتهمين المقبوض عليهم لعدم وجود أدلة على ارتكابهم جريمة ما، وهنا انزاح من على كاهله كابوس رهيب كان قد منعه من النوم ليلتين متتاليتين، ثم كلم المستشار مصطفى خاطر ليخبره بقرار الإفراج.
الآن يجب أن نعود لمزاعم الوزير الإخوانى أحمد مكى الذى كنا نظنه من رموز استقلال القضاء فإذا به من رموز استغلال القضاء، إذ زعم فى قناة «الجزيرة» أن مرسى لم يوافق على قمع المتظاهرين أمام الاتحادية بالقوة، وسكت مكى عن أكاذيب مرسى الذى وقف خطيبًا وقال إن النيابة العامة أثبتت أن أحداث قصر الاتحادية كانت مدبرة من قِبل جهات ما فى الداخل والخارج، سكت مكى والعار يكلله، فالنائب العام الذى قام محمد مرسى بتعيينه هو المستشار «طلعت عبدالله» وهو أحد أعضاء الجماعة، وكان مكى مثل أولئك الذين باعوا ضمائرهم، لذلك رأى أنه من اليسير أن يصدر طلعت عبدالله أمرًا شفويًا للمحامى العام ولرئيس النيابة يطلب منهما فيه حبس الشباب المصريين المقبوض عليهم التى تجرى التحقيقات معهم، وقد طمس على بصيرته، فقد كان مكى يعلم أن جماعة الإخوان هى التى تولت القبض على المتظاهرين السلميين، وهى التى عذبتهم، وهى الآن التى تطلب حبسهم، فلا التعذيب هز شعرة الإنسانية فيه، ولا الحبس الظالم أقلق ضميره، المهم أن يستمر حكم الإخوان قائمًا ولو على جثث الجماهير، والأهم أن يظهر الحاكم الكاذب بصورة الحاكم الصادق أمام الجماهير، وليُحبس من يُحبس، وليُظلم من يُظلم.
المهم أن إبراهيم صالح أثبت بقراره العادل المستقل أن النيابة العامة بمنأى عن الدخول إلى بيت الطاعة الإخوانى، وسيذكر التاريخ أن صالح دافع عن شرف النيابة العامة كلها وأثبت أن أسنان الإخوان ستتكسر وهى تحاول أن تقضم بفمها النيابة العامة، وهو الأمر الذى حدث فعلًا.