رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة حب نادرة رجاء وأنيس


ليسمح لى قارئ «الدستور» أن أكتب اليوم مقالًا مختلفًا، أخص به الصحيفة التى لها فى قلبى مكانة خاصة، ولرئيس تحريرها د. محمد الباز مكانة وتقدير كبيران.. إنها صفحات من أسرار وكواليس قصة حب نادرة وطويلة وممتدة لا تنتهى، لأنها ستعيش ليقرأها قارئى العزيز فى كتاب جديد، أقوم بوضع اللمسات النهائية فيه، ليكون فى متناول القارئ قريبًا.. إنها قصة حب ملهمة يندر أن تجد مثلها فى أيامنا، لأننى عشت تفاصيلها مع بطليها، وكنت طرفًا فى كثير من فصولها، وشاهدة على كل خباياها وتفاصيلها العديدة.. إنها قصة حب نادرة ومدهشة دامت ٤٧ عامًا وستظل تروى، لأن بها أسرارًا وكواليس لا يعرفها الكثيرون، ولأنها ستكون بين «دفتى كتاب» ليكون بين يدى القارئ قريبًا.
إنها قصة حب أمى الحبيبة رجاء حجاج المصرية الوطنية الأصيلة، رائدة العمل الخيرى والاجتماعى، ذات الأصل الأرستقراطى.. والمفكر المصرى الكبير أنيس منصور الذى ما زال يتربع على عرش الكتابة، إذ حققت كُتبه خلال حياته وبعد وفاته أعلى مبيعات الكتب بين الكتّاب العرب، فأحد كتبه مثلًا «٢٠٠ يوم حول العالم» حسب إحصاءات «اليونسكو» هو الكتاب الأكثر مبيعًا فى اللغة العربية، حيث تمت طباعته أكثر من ٤٠ مرة.
كما أنه فيلسوف الفقراء الذى قدّم لقارئ العربية ١٨٠ كتابًا فى مختلف المجالات الأدبية والسياسية، وكتب فى الرحلات والفلسفة والإبداع والمسرحيات بأسلوب شيق وسهل.. كما كان قريبًا من مشاهير العالم، فكان مقربًا من الرئيس أنور السادات، والمفكر المصرى الراحل عباس العقاد، ومن اثنين من قمم الصحافة المصرية مصطفى وعلى أمين، وملك الكاريكاتير المصرى مصطفى حسين، والفنان التشكيلى الرائد صلاح طاهر، وغيرهم ممن سيتضمن كتابى ذكريات كثيرة عنهم.
وكنت قررت أن أكتب صفحات كتابى هذا منذ بضعة أشهر، لكننى انشغلت برعاية أمى وحالتها الصحية وكتابة مقالاتى، ثم قررت أن أوثق هذه القصة عقب وفاة أمى الحبيبة، منذ أيام قليلة، كنوع من التواصل معها، والإحساس بأن كتابة ذكرياتى عنهما هو إيجاد صلة روحية مستمرة بينى وبينها، فهى تسكن قلبى وستظل سيرتها العطرة نورًا أهتدى به طوال مشوار حياتى.
فأمى سيدة مصرية جميلة الملامح، ذات جمال أخّاذ وأناقة لافتة للنظر، وهى نموذج لمجموعة من المميزات التى يندر أن تجتمع معًا فى امرأة واحدة، فهى امرأة مسلمة متدينة ذات إيمان حقيقى، وعقيدة راسخة، وهى امرأة عصرية ذات فكر متقدم عن عصرها، درست فى مدارس فرنسية فأجادت عدة لغات، وهى سيدة مثقفة تتمتع بقوة شخصية، ولديها قدرة خاصة على اتخاذ قرارات نافذة وشجاعة فى حياتها، وهى تجسد قمة العطاء والشهامة، وتتمتع بموهبة فى الأناقة والرقى فى تعاملاتها اليومية، ومكّنتها دراستها فى مدرسة الدليفراند الفرنسية، حيث أجادت الفرنسية والإنجليزية، من قراءة الكتب الفرنسية، والاطلاع على أحدث المجلات المصرية والأجنبية، مما فتح مداركها فى سن مبكرة على الثقافات الأخرى والموضات والفنون الحديثة وأخبار العالم، كما كانت حريصة على قراءة الصحف اليومية المصرية والكتب الأدبية منذ صغرها.
أما نشأة أمى فهى أيضًا ملهمة.. تنحدر من أسرة عريقة، فوالدها كان مهندسًا فى القصور الملكية وهو المهندس فريد حجاج، ووالدتها هى خيرية توفيق عبدالفتاح، وفى سن صغيرة توفى والدها، فتزوجت والدتها وانتقلت إلى دمنهور، وتركتها فى القاهرة لتربيها جدتها على القيم والدين المعتدل، ولتستكمل تعليمها هى وشقيقها محمد فريد حجاج الذى أصبح لواءً فى الجيش المصرى، وبطلًا من أبطال حرب أكتوبر فيما بعد.
أما خالها فكان محمد توفيق عبدالفتاح، من الضباط الأحرار، ثم أصبح وزيرًا فسفيرًا لمصر فى سويسرا بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وخالها الآخر هو زكريا توفيق عبدالفتاح الذى أصبح فيما بعد وزيرًا للتجارة فى السبعينيات من القرن الماضى، وهؤلاء الأشخاص كانوا المقربين إلى قلب أمى والمحببين إليها، وهم الذين تولوا رعايتها فى الصغر على الأخلاق والقيم والثقافة والوطنية.
ثم فيما بعد ظهر فى حياتها الصحفى والفيلسوف الشاب أنيس منصور، الذى تقدم لخطبتها بعد طلاقها من والدى بفترة، فعاشا معًا قصة حب نادرة وملهمة واستثنائية، حيث رآها لأول مرة تمارس رياضة التنس فى نادى التوفيقية، فبهره جمالها الأوروبى الأخّاذ وأصلها العريق وأناقتها الشديدة، وقرر أن يتزوجها بحيلة ذكية منه، بعد أن حاول التقرب اليها فى النادى دون جدوى، ولكى توافق على الزواج به لجأ إلى الأستاذ الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، أهم كاتب صحفى فى ذلك الوقت والمقرب من الرئيس عبدالناصر، فذهب مع الصحفى الشاب أنيس منصور ليطلبا يد أمى من خالها محمد توفيق عبدالفتاح، أحد الضباط الأحرار، الذى كانت تُكن له ولزوجته مَعزة واحترامًا كبيرين، وكان قد تم طلاقها قبلها بشهور من أبى د. محمد رجب الذى كان يكبرها بـ٢٥عامًا، ولم يوفقا فى زواجهما لفارق السن، حيث تزوجت أمى بأبى عندما أتمت الـ١٦سنة، ولم يؤخذ رأيها لأنها كانت صغيرة وذات جمال باهر، وهو طبيب معروف، فتم زواجهما سريعًا كما تم طلاقهما بعد ذلك فى ١٩٦٣.
وبعد أن وافق خالها على زواجها من ذلك الصحفى الشاب أنيس منصور، الذى توسط له الكاتب الصحفى الكبير والأكثر تأثيرًا فى الحياة السياسية ورئيس تحرير جريدة الأهرام محمد حسنين هيكل تم زواجهما فى حفل عائلى أنيق فى ٣٠ نوفمبر ١٩٦٤.
ووافقت أمى على الارتباط بأنيس، ولأنها كانت ذات ذكاء حاد وثقافة واطلاع على الكتب والصحف والمجلات حينذاك رأت فيه صحفيًا لديه مستقبل واعد، لكنها قالت له إنها ستقف معه وستدعمه ليصبح أهم وأشهر كاتب مصرى وعربى بعد إتمام زواجهما.. أكدت لى أمى ذلك فيما بعد، فلولا وجودها وأفكارها ودعمها وتنظيمها كل صغيرة وكبيرة، وأخذه بمشورتها فى كل خطوة ما استطاع أنيس أن يصبح واحدًا من ملوك الكتابة والفكر فى العالم العربى.
تم زواجهما فى حفل بمنزلهما بالزمالك، حيث عاشت معه بضع سنوات هناك، ثم انتقلت إلى منزلها المطل على النيل بالجيزة لتكون قريبة منا، نحن أبناءها، واستمر زواجهما وقصة حبهما ٤٧ عامًا حتى وفاته فى ٢١ أكتوبر ٢٠١١.
وحتى أيامه الأخيرة فى مستشفى الصفا، كانت رغم إصابتها بالشلل فى الجانب الأيمن من جسدها منذ ١٩٩٩ بسبب إصابتها بجلطة فى المخ واستنادها إلى عكاز فى سيرها- فإنها ظلت فى قمة الذكاء والجمال والإيمان بقدرها، وظلت على عهدها فى رعاية زوجها ورفيق رحلة حياتها بمتطلباته الكثيرة، فكانت تجهز له كل شىء من ملابسه إلى احتياجاته اليومية الصغيرة، وإلى إبداء رأيها فى كل شىء وفى اتجاه مصلحته الشخصية.
وكان دائمًا ما يقول لى: «رجاء بنّاءة وذكية وأنا لا أعرف أن أفعل شيئًا دونها.. هى كل حياتى».. وفى أيام محنته الصحية الأخيرة كانت تذهب يوميًا إلى المستشفى لتظل جالسة على مقعد صغير بجوار فراشه، وهى ممسكة بيده فى قسم العناية المركزة، تقرأ وتردد آيات قرآنية، وتبكى فى صمت حتى لا يشعر ببكائها رفيق العمر وحب حياتها، ويظل كلاهما ممسكًا بيد الآخر حتى يتغلب عليها التعب والإنهاك.
وعندما ينام تعود إلى بيتهما، ثم أذهب لأصطحبها فى الصباح التالى إلى المستشفى لتقضى اليوم معه، يحتضنان أيدى بعضهما بعضًا تعبيرًا عن مشاعر حنان كبير وحب جارف يندر أن يوجد مثله فى زمننا هذا.. حتى جاءت ليلة الخميس ٢٠ أكتوبر ٢٠١١، حيث أحست بأن أجله قد حان، فرفضت أن تتركه، وظلت فى نفس مكانها، تحتضن يده إلى أن استغرق فى النوم، فرفضت أن تغادر غرفته بالمستشفى، ولما أحسست أنا بالخوف عليها من الإنهاك الشديد، خشية فقدانها بسبب حزنها العميق عليه لم تترك غرفته إلا عندما أقنعتها بأننى سأظل بجواره فى المستشفى إلى حين عودتها صباحًا لتراه.
إلا أنها لم تره فى صباح الجمعة، ولا فى اليوم التالى ولا بعد ذلك، حيث أسلم الروح وتوفى صباحًا، وطلبتنى إدارة المستشفى لأذهب لرؤيته، فدخلت إلى غرفته أنا وابنى محمد وقرأنا له آيات من الذكر الحكيم، ثم حضر الزميل الصحفى محمد عبدالقدوس، وأخذنا نتلو آيات قرآنية أمام جسده المسجى أمامنا، وقررنا أن تكون جنازته فى اليوم التالى، وقررت أن أعود إلى البيت لأحمل النبأ الحزين لأمى رغم يقينى أنها لن تقوى على سماع الخبر الصاعقة لشدة ارتباطها وتعلقها به.. لكنها أحست قبلها بليلة، بشفافيتها النادرة، بأنها لن تراه وسيتوفى، وحينما رأتنى أدخل عليها غرفتها صباحًا فهمت من عينى دون أن أنبس بكلمة، وانهمرت فى بكاء طويل ومستمر أدمى قلبى.
جلست إلى جوارها أحاول التماسك أمامها، وأحتضن يدها وأواسيها، لكنها ظلت تبكيه أيامًا وليالى طويلة بعدها، وارتدت ملابس الحداد عليه سنوات طويلة، فكانت كالبدر المنير رغم الحزن، واستعانت بقراءة القرآن ليخفف عنها فراق الزوج الغالى الذى عاشت معه ٤٧ عامًا على الحب والوفاء، والرعاية والإخلاص، والجهد اليومى الكبير فى الحياة مع زوج ليس ككل الأزواج العاديين.. وبعبقريتها وذكائها الشديدين وتفانيها المستمر، استطاعت بالفعل أن تقف معه ليصبح واحدًا من أشهر المفكرين والكتّاب الصحفيين المصريين والعرب.
بين تاريخ زواج ووفاة أنيس منصور توجد تفاصيل كثيرة، وأسرار لا تُعد ولا تحصى تؤرخ لعصر كامل.. كيف استطاعت رجاء حجاج أن تجعله إنسانًا اجتماعيًا بعد أن كان عازفًا عن معرفة الناس؟.. وكيف استطاعت أن تروّض عدو المرأة؟.. وكيف استطاعت أن تقنعه بأداء مناسك الحج وهو الفيلسوف ذو الفكر الوجودى؟.. وكيف استطاعت أن تقيّم تلك الرابطة الوثيقة بينى وبينه، فأساعدها فى رعايته فى أزماته الصحية معها ورعايتها بعد أزمتها الصحية وكأنهما هما صغار السن وأنا المسئولة عنهما؟.. وكيف استطاعت أن تحيطه بأبنائها فى كل أزماته الصحية والحياتية، وأن تحيطه بمشاعر الحب والحنان وأن لديه أسرة رغم أنه لم يكن قادرًا على الإنجاب.. فأحس بأنه كبير أسرتنا، وكان يحب ويدلل ابنتى رنا وابنى محمد.. وكيف استطاعت أن تجعل منه أنيس منصور أشهر الكتّاب العرب؟.. وكيف استطاعت أن تجعله ينتج ١٨٠ كتابًا؟.. لماذا بكى أنيس منصور بدموع حارة أمام الناس فى سنة ١٩٩٩؟.. وما قصة قربه من الرئيس السادات؟.. ولماذا كان يتخفى حينما يسافر إلى الخارج بعد معاهدة كامب ديفيد؟.. ومَن الذين اختارهم أنيس منصور ليكونوا حاضرين آخر احتفال بعيد ميلاده فى بيتهما قبل وفاته؟.. إنها حكاية حب ملهمة ونادرة وفيها تفاصيل أغرب من الخيال تستحق أن تروى لتكون بين يدى القارئ.. وللحديث بقية.