رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صراع القوى الدولية فى ليبيا.. و«دبلوماسية الصدام» مع المحتل التركى


الأزمة الليبية دولية بامتياز.. تعقُّد وتشابك عناصرها أوجد صعوبات كبيرة فى متابعة وتقدير مواقف القوى الدولية والإقليمية، خاصة بالنظر إلى تردد معظمها فى اتخاذ مواقف محددة ومعلنة، أو تغير درجة واتجاه تورطها فى الأزمة من فترة لأخرى.. الأزمة اتخذت حاليًا منحى الصدام العسكرى، مما يفرض محاولة وضع النقاط على الحروف، فى صورة تقدير موقف مختصر لمواقف القوى الدولية والإقليمية منها.


الموقف التركى
تركيا هى الطرف الفاعل الرئيسى فى ليبيا.. عرضت على السراج تقديم قوات ومرتزقة وأسلحة وتشييد قواعد عسكرية، ووعدت بقلب موازين القوى لصالحه، ونفذت ذلك بإجراءات غير شرعية دوافعها استعمارية.. أدميرال عدنان أوزبال، قائد القوات البحرية، زار طرابلس ليتفقد قاعدة «بوسيتة» بطرابلس، ويبحث متطلبات إنشاء قاعدة «مصراتة».. وزير الدفاع خلوصى آكار ورئيس أركانه وقعا اتفاقًا عسكريًا مع السراج لإنشاء قوة عسكرية تضمن حماية مصالح تركيا فى ليبيا، وتتيح لها التدخل المباشر.. آكار أكد أن تركيا عادت إلى ليبيا فى ٢٠٢٠ بعد أن تخلى عنها الأجداد ١٩١١، لكنها لن تخرج منها أبدًا، ذلك إعلان صريح عن حقبة استعمارية جديدة.. فؤاد أقطاى، نائب الرئيس التركى، أكد «أن بلاده تسطر التاريخ فى ليبيا، بعدما مزقت الخرائط والمخططات التى كانت تهدف لإقصائها عن شرقى البحر المتوسط».. سلوكيات البلطجة أضحت سياسة رسمية ومعلنة لتركيا، المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين، حذر «لا يمكن أن تنجزوا أى اتفاق أو فرض واقع دون تركيا، سواء فى ليبيا أو شرق المتوسط أو سوريا»، ما يفسر رفض تركيا «المبادرة المصرية»، وخطوط القاهرة الحمراء.. أقطاى حذر من أن «تدخل مصر المباشر فى ليبيا سيضعها فى مواجهة تركيا العضو فى حلف شمال الأطلسى»، ملوحًا باحتمال تدخل حلف «الناتو».


الموقف الروسى
روسيا هى القوة الفاعلة الرئيسية الثانية فى ليبيا.. تحتفظ بعلاقات سياسية مع السراج.. واتصالات خاصة مع سيف الإسلام القذافى.. فى الوقت الذى تدعم فيه الجيش الوطنى بعناصر من شركة «فاجنر» للخدمات الأمنية، لتشغيل أنظمة الدفاع الجوى والاتصالات والطائرات المُسيرة، وإن اضطرت إلى سحبها من الخطوط الأمامية، خلال معارك طرابلس، عندما أضحى وجودها يهدد بصدام مباشر مع القوات التركية، وعناصر المرتزقة التابعة لها.. العداء التاريخى بين روسيا القيصرية وتركيا يطغى على توافق المصلحة الراهن بينهما، ما يفسر عدم الارتياح التركى تجاه السياسة الروسية، واعتبارها فى جانب المقاومة لوجودها.. روسيا ألغت زيارة وزيرى الخارجية والدفاع إلى تركيا لبحث الملف الليبى ١٤ يونيو، بسبب اختلاف وجهات النظر تجاه الأزمة.. خلال لقاء بوتين مع ماكرون، ٢٦ يونيو، اتفقا على ضرورة وقف إطلاق النار فى ليبيا، واستئناف الحوار بين الأطراف الليبية بالتوافق مع قرارات مؤتمر برلين، وقرار مجلس الأمن ٢٥١٠.. تنسيق موسكو مع باريس، التى تدعم الجيش الوطنى، يعكس حرصها على تشكيل جبهة مضادة لتركيا، تدعم موقفها فى صراع المصالح الدائر بينهما فى ليبيا، واستقبالها عقيلة صالح يشكل انحيازًا رسميًا ضد الميليشيات الإرهابية، التى تدعمها تركيا ويقاتل بها السراج.


الموقف العربى
مصر والإمارات والسعودية قامت بتقديم الدعم للجيش الوطنى، حرصًا على عدم سقوط الدولة الليبية أو تفككها، على النحو الذى يحولها إلى بؤرة إرهابية، تهدد دول الإقليم.. لكن التدخل التركى، بما يحمله من مشروع عثمانى يستند إلى «الإخوان»، وأطماع فى النفط، يستهدف مصر بالدرجة الأولى، باعتبارها الأقدر على التصدى، مما يفسر توجيه تركيا لأدواتها الإرهابية إلى سيناء منذ ٢٠١٣.. اتساع الحدود البرية المشتركة لقرابة ١٢٠٠ كم يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصرى، ويفرض رسم نطاق أمنى، يحدده خط أحمر «سرت الجفرة» لا ينبغى السماح بتجاوزه، خاصة إذا كان هذا التجاوز يستهدف السيطرة على منطقة الهلال النفطى، ما يمكن الإرهاب التركى من مصادر تمويل نشاطه بالمنطقة.. المبادرة المصرية أكدت الحرص على وحدة الأراضى الليبية، واضطلاع القبائل الليبية بمسئوليتها فى التصدى للاستعمار التركى، وعدم تمكين الميليشيات الإرهابية من السيطرة على مؤسسات الدولة.. مصر لا تحافظ على الحدود الجغرافية لنطاق أمنها القومى فحسب، وإنما تؤدى دورها القومى فى تنفيذ اتفاق الدفاع العربى المشترك، والاستجابة لطلب البرلمان الليبى المنتخب بتقديم الدعم اللازم لمواجهة الاستعمار الجديد.


زعزعة التحالفات الأوروبية
المشكلة الليبية فجرت أزمة داخل حلف «الناتو»، وعمقت تصادم المصالح بين أعضائه، مما هدد الهدف الذى أنشئ من أجله، والخاص بضمان الأمن الجماعى لأعضائه.. الموقفان الأمريكى والتركى يخرجان عن السياق العام لموقف الحلف ومصالحه، لأنهما ينطلقان من مصالحهما الذاتية، مما أدى إلى شروخ داخله هددت بوقوع صدامات صريحة، على شاكلة الحادث العسكرى البحرى بين فرنسا وتركيا أوائل يونيو، عندما حاولت الفرقاطة الفرنسية «كوربيه» تفتيش سفينة مدنية تركية قبالة سواحل ليبيا للتأكد من عدم نقلها أسلحة مهربة، وكذا الحادث الذى تعرضت له فرقاطة يونانية أثناء محاولتها تفتيش مركب تجارى تركى متجه إلى ليبيا، عندما تصدت الفرقاطات التركية لها ومنعتها من تفتيشها.. عنف رد الفعل التركى دفع ماكرون إلى اعتباره يشكل «أحد أبرز الإثباتات على الموت السريرى للحلف».. وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلى، أثارت ما تعرضت له الفرقاطة الفرنسية خلال اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسى، حيث أيدت ٨ دول أوروبية طلب باريس فتح تحقيق بالواقعة.. الأزمة الليبية كشفت عن الحاجة الملحة لإصلاح حلف «الناتو».
الموقف الفرنسى الداعم للجيش الوطنى الليبى لعبت مصر دورًا رئيسيًا فى تشكيله.. إيطاليا تقليديًا تدعم الميليشيات وحكومة السراج، وتقدم لهما دعمًا عسكريًا وطبيًا من خلال بعثاتها فى طرابلس ومصراتة، التى تتولى التنسيق المعلوماتى والاتصالات ودعم البعثة الأممية.. ألمانيا نأت بنفسها عن التحالفات العسكرية، وتسعى لممارسة دور نشط فى نزع فتيل الأزمة، والتوصل إلى تسوية سياسية.. فرنسا لعبت دورًا رئيسيًا فى محاولة رأب الصدع داخل الاتحاد الأوروبى، وتنسيق المواقف بين دوله فى مواجهة الخطر التركى.. احتواء الخلافات التقليدية بين باريس وروما كان أهم إنجازاتها.. إيطاليا تنازلت عن تحفظاتها القديمة من أجل إتمام عملية ترسيم الحدود مع اليونان، حتى تسقط مشروعية الاتفاق التركى مع السراج، وهو ما يتكامل مع اتفاق الترسيم المزمع بين البرلمان الليبى واليونان، على نحو يحرم أنقرة من مبررات التنقيب عن النفط والغاز شرق المتوسط.
التوافق بين باريس وروما يعكس تقديرهما لمخاطر السياسة العدوانية التركية فيما يتعلق بقضية استخدام ورقة المهاجرين، والسطو على نفط وغاز المتوسط.. ألمانيا شاركتهما فى إصدار بيان وزراء الخارجية ٢٥ يونيو بدعوة الأطراف الليبية إلى إنهاء القتال، وإيقاف التحشيد العسكرى، والتوصل إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، لتهيئة الظروف اللازمة لاستئناف الحوار السياسى الليبى بشكل فعال، مما سيسمح بحل دائم للنزاع، فى إطار مبادئ مؤتمر برلين، وشجع البيان كل الجهود فى هذا الاتجاه، بما فى ذلك «المبادرة المصرية».. البيان حث الأطراف الأجنبية على إنهاء تدخلاتها، واحترام الحظر الدولى للأسلحة المفروض على ليبيا.
إيطاليا تحرص على الوجود على الأراضى الليبية، لا بحكم تاريخها الاستعمارى القديم، بل للحفاظ على مصالحها فيها، خاصة ما يتعلق بحماية استثمارات شركة «إينى»، والسيطرة على تدفقات المهاجرين المعرضة للانفجار بسبب انتشار «كورونا»، وهو ما أكده وزير الدفاع الإيطالى صراحة، مما يفسر تواصل الدبلوماسية الإيطالية مع الجهات الفاعلة المعنية بالأزمة الليبية، خاصة تركيا ومصر والإمارات، بهدف تجنب تصاعد المواجهة العسكرية بين القوى الخارجية.. وزير الخارجية الإيطالى لويجى دى مايو زار طرابلس ٢٤ يونيو، وحذر من أن تؤدى محاولة الاستيلاء على سرت إلى مزيد من الاقتتال، وشدد على أهمية العودة إلى المسار السياسى ورفض التدخلات الخارجية، واستئناف إنتاج النفط.


الموقف الأمريكى
الولايات المتحدة تراجع اهتمامها بالأزمة الليبية منذ ٢٠١١، لكن ظهور مؤشرات تعكس تورط روسيا فى الأزمة، فرض على واشنطن قدرًا من الاهتمام، عكسته مواقف مترددة، ومتناقضة أحيانًا، ومع تصاعد الجدل بشأن خط «سرت الجفرة»، التقى وفد القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم» مع فايز السراج بمدينة زوارة غربى ليبيا ٢٢ يونيو.. بحضور قادة الميليشيات ومسئولى المناطق العسكرية، وفتحى باشاغا وزير الداخلية.. الجانب الأمريكى ضم ممثلين عن «أفريكوم» ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومى بالبيت الأبيض.. غياب محمد الطاهر سيالة مسئول خارجية السراج يعكس الطبيعة العسكرية للقاء.. معظم أعضاء الوفد الليبى ينتمون إلى مصراتة، وسبق لهم أن عرضوا خلال حرب طرابلس استضافة قاعدة عسكرية أمريكية، لكن الوفد الأمريكى تمسك بضرورة تفكيك الميليشيات الخارجة عن القانون، باعتبارها أحد أسباب عدم الاستقرار.
الإدارة الأمريكية دفعت بوفد للقاء وزير الداخلية ٢٤ يونيو، لبحث تفاصيل إصلاح القطاع الأمنى «SSR»، وخطة الوزارة لتطوير أجهزتها وأقسامها المختلفة، إضافة إلى برنامج الوزارة لإعادة تفكيك الميليشيات، وإدماج ما يصلح منها فى مؤسسات الدولة وتسريح الباقى.. الوفد الأمريكى أعرب عن قلقه من عودة تنظيم «داعش» إلى صفوف ميليشيات السراج بمدينة صبراتة، وأكد ضرورة تمتع الليبيين بحماية قوات أمن قادرة وخاضعة للمساءلة، وخالية من الأخطار التى تشكلها الميليشيات والجماعات المسلحة والمقاتلون الأجانب.. مجلس الأمن القومى الأمريكى أكد فى ٢٢ يونيو، معارضة واشنطن أى شكل من أشكال التصعيد العسكرى فى ليبيا، وطالب بوقف إطلاق النار واستئناف المفاوضات، واستكمال التقدم الذى تم إحرازه من خلال محادثات الأمم المتحدة ٥+٥، وإعلان القاهرة ومؤتمر برلين.. الخارجية الأمريكية أعلنت فى ٢٧ يونيو عن رفضها الهجوم الذى تحضر له حكومة الوفاق فى اتجاه «سرت الجفرة».. وكشفت الخارجية الأمريكية عن أن وفدًا من الحكومة الأمريكية سيجرى محادثات مع ممثلين عن الجيش الوطنى الليبى، على غرار المحادثات التى أجراها الوفد مع داخلية الوفاق بشأن حل الميليشيات المسلحة.. أمريكا تحاول العودة سياسيًا للساحة الليبية.

حرب الاستنزاف
استهداف قاعدة «الوطية» الجوية، بغارات دقيقة عدة مرات، دمرت شبكات الدفاع الجوى والاتصالات بالقاعدة، وتدمير حشود القوات التركية والمرتزقة والميليشيات فيها وفى غرب سرت، يثير تساؤلًا مهمًا: هل الفاعل الجيش الوطنى الليبى، بطائراته الروسية الحديثة التى تسلمها مؤخرًا، بتسهيلاتها ودعمها الأرضى والجوى.. أم هو الطيران الفرنسى المنطلق من قواعده فى مالى، انتقامًا من حادث الفرقاطة، ولمنع تركيا من الاستقرار، وجلب خلايا «داعش» و«القاعدة» بما تحمله من تهديد للمصالح الفرنسية بدول الساحل والصحراء.. أم أنه الطيران المصرى بضربات استباقية للتخلص من أى دفاعات بالقاعدة تسمح بوصول الـF-16 التركية، لتغطية الهجوم المنتظر على محور «سرت الجفرة» الخط الأحمر لأمن مصر القومى؟
الحقيقة أن هذا الغموض بشأن الفاعل مطلوب فى حد ذاته، لإحداث أكبر قدر من الارتباك لدى القيادة التركية، والمهم فى تلك الغارات هى الرسالة التى تحملها، ومؤداها أن هناك توافقًا واسعًا بين القوى المعنية بالأزمة على عدم السماح لتركيا بالاستقرار فى ليبيا، وأن استراتيجية مقاومتها تعتمد على استنزاف دائم لقواتها ومنشآتها وتجهيزاتها وأسلحتها، ومنعها من اكتساب أى أراضٍ جديدة، مع رفع ضريبة استمرارها فى غرب ليبيا، على نحو لا يحتمله الاقتصاد التركى.. تلك هى دبلوماسية الصدام مع المحتل التركى.