رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مؤتمر وطنى لقضية المياه



دفعنى، مثل كل أبناء شعبنا، الاهتمام بقضية نهر النيل و«سد النهضة» وتداعياتهما على أمن ومصالح ومستقبل وحياة المصريين إلى اللجوء لمكتبتى، بحثًا عن مصادر علمية موثوقة ورؤى موضوعية مضمونة، تسهم فى فهم القضية وأبعادها.
وجدت بضعة عشرات من الكتب، تتجاوز الستين كتابًا، جمعتها على امتداد ما يربو على نصف القرن، بعضها ذو طابع تاريخى، والآخر ينحى مناحى إيكولوجية وجغرافية، والبعض الآخر يربط النهر بالسياسة، ويلقى الأضواء على استخدام مياه النهر الخالد سلاحًا لفرض الإرادة، والعديد منها يتحدث، ومنذ وقت بعيد عن «حروب المياه» باعتبارها أهم أنواع الحروب التى ستُحَدد مستقبل البشر.
ومن عجب أن العديد من هذه المراجع أفاد بأن النابهين من أبناء هذا الوطن، والقائمين على إدارة شأنه العام، استقصوا الوضع، ونَبَّهُوا على امتداد عقود طويلة إلى المؤامرات التى تحاك ضد مصر ومياه نيلها، منذ مئات الأعوام، وفى العصر الحديث أيضًا، قبل تَفَجر وقائع أزمة «سد النهضة» ومراوغات الطرف الإثيوبى بعشرات ممتدة من السنين.. بل كشف العديد منها قصورًا فى نظرة بعض أولى الأمر، الذين تولوا إدارة هذا الملف الخطير، وأشاروا إلى عدم فهمهم طبائع القضية ومشتملات ملفاتها المُتراكمة، التى تحتاج إلى يقظة وكياسة ووعى وخبرة فى فك تعقيداتها، حتى يُمكن الرسو بسفينة الوطن، التى تسير فى بحرها العباب، إلى بر الأمان.
ولعل أخطر ما لفت أنظار بعض العلماء المعنيين بهذه القضية، والخبراء الثقات فى شئونها، هو المسالك الوخيمة التى حذروا من نتائجها الكارثية، منذ زمن بعيد، والمترتبة على سياسات الأنظمة التى أعقبت حكم الرئيس «جمال عبدالناصر»، حيث أهملت إهمالًا جسيمًا إيلاء القارة الإفريقية ما تستحقه من اهتمام لازم، وزاد الطين بلة ما حدث فى عهد «حسنى مبارك»، حين تكفلت المحاولة الإرهابية الفاشلة لاغتياله فى العاصمة الإثيوبية «أديس أبابا»، عام ١٩٩٥، فى وضع ملف الأرض التى نحن منها وإليها، على رف المهملات، وأسقطت شئون وقضايا القارة التى ساعدنا على تحرير عشرات من دولها، وكنا فى القلب من كل أحداثها ومعاركها، من جدول أعمال الدولة، فى ذات الوقت الذى كانت تزحف فيه الدول المعادية: الدولة الصهيونية وتركيا ودول خليجية أخرى، زحفًا دءوبًا إلى جنباتها، حاملة الوعود والأحلام والعهود والأوهام، إلى شعوبها المتطلعة إلى من يمد لها يد العون، وعلى أى مستوى.
وبعد، فإن أهم ما يخرج به المطالع هذه الكتابات المسئولة، التى تسنَّى لى الاطلاع على بعضها فى الفترة الأخيرة، هو أن مصر عامرة بالقدرات الهندسية والفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية، التى تعرف أدق تفاصيل ملف نهر النيل ومشتملاته، وتملك رؤى حصيفة فى التعامل مع دقائقه ومشكلاته، وإذا أضفناهم إلى عشرات، بل ومئات الخبراء المُدربين والمُجربين، فى وزارات الزراعة والرى والموارد المائية ووزارة الخارجية والأجهزة السيادية والمثقفين ورجال الوعى والسياسة- لأمكننا أن نجمع من تلاقح أفكارهم، وتبادل وجهات نظرهم، الرأى السديد، فى وضع «سيناريوهات» مواجهة المشكلة، واقتراح أفضل الحلول لمعالجة تداعياتها.
وليس الأمر مقصورًا على «سد النهضة» وقضيته فى البداية والنهاية، فحتى لو استجابت إثيوبيا وهو أمر ليس بالسهل اليسير لكامل طلبات مصر المشروعة وضماناتها الواجبة، ستظل قضية المياه قائمة، فالـ٥٥.٥ مليار متر مكعب، نصيبنا من مياه النيل، كانت قائمة حين كان عدد أبناء شعبنا لا يتجاوز بضعة ملايين، وهو ذاته نفس المقدار وعددهم الآن يزيد على الملايين المائة، وكل المؤشرات الموضوعية تُشير إلى أننا دخلنا مرحلة «الشُح المائى»، التى تفرض منهجيات مُختلفة، ومسلكيات مغايرة، وسبلًا جديدة فى النظر إلى هذه المسألة برمتها.
وما أحوجنا الآن إلى أن تبادر الجهات المسئولة إلى دعوة كل الأطراف المعنية، والعلماء المجربين وأصحاب الفكر والمعرفة، وخبراء السياسة والاقتصاد، وغيرهم من العقول النابهة، وما أكثرهم فى بلادنا، إلى مؤتمر وطنى شامل عنوانه: «قضية المياه: حاضرها ومستقبلها فى مصر والمنطقة»، لكى يضعوا برنامجًا شاملًا للتعامل مع هذه الأزمة المصيرية، يتجاوز مسألة «سد النهضة» الراهنة، ويضع تصورات لمقاربة القضية، بعد ثلاثين أو خمسين عامًا من الآن، حينما يصل تعدادنا إلى مائة وخمسين أو مائتى مليون مواطن، مع التآكل اليومى لنصيب الفرد من إكسير الحياة.