رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تراتيل

أحمد الباسوسى
أحمد الباسوسى



أدرك بائع الحواديت فى تلك اللحظة أنه محاط بكل سكان الحارة وقد وقفوا بعيدًا يصيخون السمع فى تلهف وشوق.. وكان يقف بينهم رجل مارس الجنس توًا مع امرأة صديقه.
ما من مخلوق يسير فى الشارع محنى الظهر أو مرفوع الهامة إلا وقد سُلب قفاه.. والمزاعم كثيرة.. والدوافع أكثر.. والخلاص الوحيد أن يتهيأ الناس لهذه العملية لتصبح فيما بعد عادة.. فالمسألة حتى الآن لم تتعد طور التجريب.. وهاهم الناس يسيرون فى جماعات كالقطعان المتكاسلة ليُضرب كل منهم «حسب دوره» على قفاه.. ويكون بذلك استحوذ على تصريح بالمرور فى الشارع الرئيسى.. وعند العودة تمارس نفس الطقوس ليحصلوا على تصاريح الإيواء للمنازل وأحضان النساء.. هذا ما صرح به زعيم الأجلاف للصحافة والقنوات الفضائية التليفزيونية بعد تجربة يومين اثنين.
ردود الأفعال الأولية عادة تكون مشجعة على التوقع بأن استمرارية الفعل قد تتحول لاحقًا إلى ضرورة ملحة.. وحسب توقعات الأجلاف الذين يسدون بوابة الحارة فإن الأمر ممكن أن يتحول إلى شبه إدمان.. وارتبطت مزاعمهم بالكثير من الأدلة.. بيد أن زعيمهم الذى يئن الكرسى تحت مقعدته المهولة يقول: «إننا ما زلنا نجرب ولا نريد أن نغالى فى مسألة التفاؤل».


بائع الحواديت فى الحارة يرتل فى حضرة الأجلاف وزعيمهم مثل المعتاد ويقول: «وعندما مرت قافلة العجائز المغلفة بالسواد تلكأت قليلًا أمام النصب الكبير المزروع وسط الصحراء.. رأسه بالغ الارتفاع حتى ليكاد يختفى فى السحاب.. مدبب، يقولون إن كل إنسان جلس على هذا الرأس المدبب منذ بداية الخليقة.. لكن الصياد المحنك لم يتمكن من صيد قافلة العجائز.. وهكذا مرت القافلة بسلام حتى وصلت لمكان فيه نهر يجرى، وشجر وجثث من القتلى تغطى الأرض.. وهنا تحسر الصياد على انفلات الصيد الثمين.. وأما العجائز، وكن جميعهن من النساء القبيحات، فقد طفقن يصرخن وينوحن ويخلعن أسمالهن السوداء، ويمددن سيقانهن الناشفة فى النهر».


طاقة انفتحت من وسط الحارة.. خرج يرفل فى نحافته.. متدثرًا بفانلة بحمالات.. كان منكس الرأس.. فتحت طاقة أخرى فى آخر الحارة.. دخل منكس الرأس والقلب.. قابلته امرأة صديقة بالتحضين والتقبيل.. سحبته من يده بسرعة وهو يتعثر فى كراكيب الغرفة وأوانى الطبخ المتناثرة على الأرضية.. ألقته بجنون على السرير.

كان قرص الشمس ساقطًا لتوه.. بدأ الناس يتسربون واحدًا تلو الآخر.. وبدأ إيقاع الحركة يهدأ.. يخفت.. يسكن.. وثلاثة من الأجلاف حاصروا بائع الحواديت.. رفعوه على أكتافهم الغليظة ومضوا به إلى الزعيم.. قال له الزعيم وكان شبه مخدر بفعل الحشيش: «حكاية العجائز.. أسمعها تانى »... انكشح دخان كثيف من المداخن الآدمية المعبقة بأرخص أنواع التبغ والحشيش.. وأنياب صفراء نخرها السوس.. اتسعت حلقة الأجلاف وهم يكركرون ويزمجرون ويضحكون...
«أدرك بائع الحواديت فى تلك اللحظة أن العجائز العرايا تركن النهر بعد أن اغتسلن.. وحفرن المقابر.. وطفن حول جثث المحاربين.. انتقت كل واحدة منهن شابًا مليحًا خفق له قلبها.. وطفقت تضاجعه بحنان حتى صعدت الشمس وسط السماء.. وأمرتهن بالتوقف ودفن القتلى».. ازداد إيقاع الكركرة والضحك وناطح أصحاب الأنياب المسوسة بعضهم بعضًا مثل الخراف قبل أن يسقطوا من فوق مقاعدهم.. بائع الحواديت يراقب مثل العادة الطابور الطويل وهو ينفرط فى الشارع الرئيسى بعد أن يأخذ كل شخص «حسب دوره» نصيبه من الضرب على القفا.. لكن اليوم غير الأمس.. غير أمس الأمس.. إذ مضى نصف النهار والطابور لا ينقص ولا يزيد.. والأجلاف فى حيرة من أمرهم وارتباك.. جاء زعيم الأجلاف وأصدر تعليمات مشددة قائلًا بحدة غير اعتيادية: «إن نصيب كل فرد قفا واحد فقط فى الذهاب ومثله وقت الإياب.. ومن يُضبط متلبسًا بمحاولة زيادة نصيبه أكثر من ذلك يحرم بتاتًا من الضرب».

فى هذه الفترة التى تاهت من ذاكرة التاريخ كانت الأرض ساخنة جدًا.. وكانت الحرب قد وضعت أوزارها توًا.. تقدمت الجيوش المنتصرة لتسرق الحبوب والماء وتسبى النساء.. جمعت العجائز القبيحات وأطلقتهن فى الأرض الواسعة.. وما يعلم أحد أى الأيام كان السبت وأيها كان الأحد.. لم تسكت الألسنة عن المطاريد فى الصحراء.. قالت إنهن تآمرن على الرب.. واغتصبنه عنوة.. وقالت إن النسوة كوّنّ مملكة كبيرة تاجها فى السماء وحكومتها فى الأرض.. وإنهن كنّ يُوقظن القتلى، ويتخذن منهم خلانًا.. ظلت تبحث عنهن مائة سنة.. رصدت مكافأة مجزية لمن يأتى برءوسهن جميعًا.. وما عاد الباحثون ولا رءوس المبحوث عنهن».
غيّم الدخان على الوجوه الداكنة غير محددة القسمات.. فأخفاها لحظات قبل أن ينقشع غباره، وتظهر مرة أخرى جامدة كأنها مصنوعة من الجبس.. تعالت سيمفونية الكركرة كأنها تطالب هى الأخرى بالمزيد.. تابع بائع الحواديت: «وبعد أن اطمأنوا إلى دفن القتلى ساروا حتى وصلوا إلى مكان فيه شجر كثير ومنازل هجرها ساكنوها فرارًا من الطاعون القادم إليهم من جهة الغرب.. وفى هذا المكان حطت القافلة رحالها.. وسكنوا البيوت الخاوية وعملوا فى الأرض حتى جاء وقت المخاض، ووضعت كل منهن طفلًا جميلًا عيونه زرقاء وشعره أصفر».
أدرك بائع الحواديت فى تلك اللحظة أنه محاط بكل سكان الحارة وقد وقفوا بعيدًا يصيخون السمع فى تلهف وشوق.. وكان يقف بينهم رجل مارس الجنس توًا مع امرأة صديقه.. وكان صديقه يقف متكئًا بجزعه على كتفه.. زعيم الأجلاف هبّ واقفًا فجأة.. انتفض الأجلاف وغير الأجلاف واقفين سوى بائع الحواديت الذى ما زال يرتل فى جو تحول من سكون مطبق إلى ضجيج وهرجلة وحركات أخرى كثيرة.. وعيون قلقة.. وانتشار واسع للأجلاف ألزم الحارة سكونها.. وما عاد يُسمع لأى همس.. ضحك زعيم الأجلاف وهو يجذب ذراع بائع الحواديت بقسوة، ويدفع به وسط الحارة الساكنة سوى من أجلافه وقال: «إنهم يستخدمون الآن آلاتهم الحادة الشنيعة داخل شقوقهم».. كان الظلام رائعًا للغاية.. وكان عليه إما أن يدخل ويمارس الجنس مع زوجته، أو يظل واقفًا يتأمل هذا المشهد الجلل.. الذى وضعه فيه الزعيم.. ولكن هيهات أن يستطيع التوقف عن الترتيل والسرد.. ظل واقفًا وسط ظلام أسود كثيف.. محاطًا بالرعب والأجلاف وتأوهات النسوة المكبوتة.

«فى ذلك اليوم من ذاك الزمن اجتمع عشرون فتى جميلًا عيونهم زرقاء وشعرهم أصفر ينشدون أغنية الخلاص والعودة للوطن.. وكان ذلك فى الشتاء.. وكانت السيوف لامعة.. وكانت حتمية الخلاص طاغية.. وأمهاتهن العجائز كن بالداخل ينوحن.. دثرت كل أم ولدها بعباءة ثقيلة، وغنت فى أذنه أغنية وأعطته كيسًا فيه دراهم.. غاب الفتيان فى عمر الزهور.. هنا أدركت الأمهات أن مكروهًا حدث.. وأن الزهور ربما لا تعود.. خرجن فى قافلة.. وعندما مررن بالنصب الكبير رفعت إحداهن رأسها تنظر سنه المدببة فوجدت فتى الفتيان «مشبوحًا» فوق السن المدببة، وقد خرج الحديد من صدره.. هنا أيقنّ أن المكروه حدث.. جُسنّ فى الصحراء.. وعلى مقربة من النصب شاهدن جثث الفتيان ممزقة يأكل منها الطير.. ولا جثة واحدة لعدو!.

ممثل هزل درجة ثانية يعود مخمورًا كل يوم.. لا يضربونه بالقفا.. بل يطلبون منه دائمًا أن يؤدى دور الفتى الشاذ جنسيًا.. ودائمًا يؤدى لهم دور الفتى الشاذ جنسيًا.. فيضحكون ويناطحون بعضهم.. عاد اليوم موجوع القلب.. وكان بائع الحواديت لا يزال يرتل.. رفعوا أعينهم نحوه.. كان هناك دخان كثيف يغلف الجلسة.. وكانت الأفكار مشوشة.. والانبساط ظاهرًا.. ثلاثة حاصروه وأحضروه للزعيم.. قال له: «نريد أن نرى فتى الفتيان مشبوحًا فوق الخازوق.. وقبل أن ترتسم علامات الاستفهام على الوجوه القبيحة استنهض الزعيم بائع الحواديت فى حدة وصاح فيه ضاحكًا: «أنت الخازوق.. أنت الخازوق».. انفجروا يرددونها دون أدنى علامة على الفهم ورءوسهم تتمايل.. واستطرد الزعيم: «وأنت.. أنت..»، مشيرًا إلى الممثل الهزلى الشاب: «فتى الفتيان.. هيا هيا.. أجلسوا فتى الفتيان على الخازوق».. ربما من لم يضحك على هذا المشهد لن يضحك فى حياته ثانية.. امتلأت الحارة بالضاحكين.. على مشهد معاد.. وربما يتكرر كثيرًا.. قال بائع الحواديت بصوت هامس قبالة الرجل الذى ضاجعت امرأته صديقه توًا: «ربما يؤدى السؤال إلى معرفة.. ربما تؤدى المعرفة إلى جريمة قتل.. ربما يؤدى القتل إلى التطهر.. ربما يؤدى التطهر إلى السمو والرفعة.. ربما يؤدى السمو والرفعة إلى إبطال إدمان عادة الضرب على القفا».. قال الرجل الذى ضاجعت امرأته صديقه توًا دون أدنى اهتمام أو مبالاة: «يعنى إيه؟».. لم يكن أمام بائع الحواديت غير أن يذكر بعض الحقائق ويتبعها ببعض الفروض.. ولكن جاءت النتيجة سلبية للغاية.. فالرجل اللامبالى لا يفهم الحكمة.. ولا الحدث نفسه.. توخى كل المحاذير وهو يحاول إفهامه كيف أن امرأته تضاجعه وصديقه فى نفس الوقت.. إنها مسألة من الصعب البوح بها.. ترقرقت الكلمات من فمه بصورة مبهمة.. لكن الأمر جلى على حقيقة كانت مخبأة وراء الشمس.. غير محددة الأبعاد.. لكنّ لها بريقًا رائعًا.. مميتًا.. لطمته بقوة على أم رأسه.. فألجمته.. قال له الرجل اللامبالى بابتسامة خبيثة: «إنها لعبة بينى وبين صديقى.. نلعبها معًا فى الظلام.. ولو صبرت قليلًا لوجدتنى دالفًا إلى حضن امرأة صديقى.. الحارة كلها تلعب نفس اللعبة».. تبدلت كل الرواتب المنطقية.. أصبحت الأوضاع المعكوسة تمثل خطرًا شخصيًا يدخل بيته.. لم يشعر بالممثل الهزلى وهو يسحب كرسيًا ويجلس قبالته ويرميه بالتحية.. قال بصوت شبه مسموع: «إنهم يتبادلون التحية والزوجات والضرب بالقفا مع النكات».. حاول الممثل الهزلى أن يرد على عبارته بطريقة هزلية.. لكنه لم يجده أمامه.. التفت إلى الزوج اللامبالى واقترح عليه أن يلعبا الكوتشينة.. ووافق الرجل على الفور.
لأول مرة فى حياته تنفجر عيناه بينابيع الدموع التى كانت مخبأة داخلها طوال سنوات عمره.. طفق يرتل فى حضرة الأجلاف وزعيمهم وأهل الحارة جميعًا.. خرجت الكلمات من فمه مبتلة.. أذابت كل شىء فى طريقها حتى الوجوه القبيحة.
«وبعد البكاء والعويل بحثت كل عجوز عن فتاها المقتول.. وحملته بين يديها تقبّله وتغمره بدموعها الساخنة.. وبعد ذلك حفرن المقابر.. وأنزلت كل عجوز فتاها المقتول فى القبر.. وطفقت تضاجعه بحنان بالغ.. وكان كل فتى فى سن تسمح له بمضاجعة النساء والإنجاب.. وهكذا فعلت أمهاتهن معهم مثلما فعلن من قبل مع آبائهم القتلى.. وبعد انتهاء طقوس المضاجعة أهالت كل عجوز التراب على ابنها.. وسرن فى قافلة وقد علقت كل منهن فى لحظتها.. حتى مررن على مكان فى نهر يجرى وأشجار تفرش بساط الأرض.. لا أول لها ولا آخر.. وفى هذا المكان ضربن أكواخهن وبدأن العمل حتى جاء وقت المخاض».
ازداد نشيجه حتى توقف تمامًا عن الكلام.. حملوه إلى منزله.. وظل يبكى حتى مات.