رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قاتل المطرب الإثيوبى



الصراعات الداخلية على السلطة أفقدت الائتلاف الإثيوبى الحاكم توازنه، وإدراك «أبى أحمد» أن أيامه فى السلطة معدودة أفقده عقله، وجعله يزعم، أو يتوهم، أن أعداء الخارج والداخل لم يجدوا ما يحاربون به نجاحه غير اغتيال المطرب الشاب هاتشالو هونديسا، الذى كان من أبرز معارضيه، ولقى مصرعه، مساء الإثنين، بعد لقاء تليفزيونى هاجم فيه ائتلافه الحاكم!.
فى كلمة بثها التليفزيون الرسمى، أدان رئيس الوزراء الإثيوبى جريمة الاغتيال، ووصفها بأنها «عمل شرير ارتكبه وحرض عليه أعداء من الداخل والخارج» حتى يمنعوه من إكمال ما بدأه، وأوضح: «فى الوقت الذى كان فيه مجلس الأمن يجتمع لبحث أزمة سد النهضة تمت عملية الاغتيال، وهى جريمة شاركت فيها قوى خارجية ونفذتها قوة محلية، لمنعنا من تكملة سد النهضة». ثم تعهد بتقديم قتلة هونديسا إلى العدالة، وطالب الشعب الإثيوبى بضبط النفس!.
مقتل المطرب المعارض، المنتمى إلى عرقية «الأورومو»، صب مزيدًا من البنزين على التوترات، المشتعلة أساسًا، بين أبناء ذلك المكون العرقى الأكبر عددًا، فى الدولة متعددة الأعراق، وبين الحكومة الفيدرالية، التى يترأسها أبى أحمد، المنتمى إلى العرقية نفسها، والذى لم يقم بتحسين أوضاعهم، ولم يحقق مطالبهم، بل على العكس، زادت أوضاعهم سوءًا، واستمرت سياسة إقصائهم، واعتقال المطالبين بحقوقهم، وظل الآلاف منهم يدفعون إتاوات دون وجه حق.
المفارقة، هى أن أغانى هاتشالو هونديسا لعبت دورًا أساسيًا فى الإطاحة برئيس الوزراء الإثيوبى السابق، هايلى مريام ديسالين، وصعود الحالى، وكان من أبرز الداعمين لأبى أحمد، لكن سرعان ما انقلب هذا الدعم إلى معارضة، بعد تردى الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، وما يجعل المفارقة مضاعفة، هو أن السلطات الإثيوبية قامت، فى اليوم التالى لاغتيال هونديسا، باعتقال جوهر محمد، الذى قام، هو الآخر، بدور كبير فى صعود أبى أحمد، وصار لاحقًا منافسه الأبرز، وبسببه، اضطر الائتلاف الحاكم إلى تأجيل الانتخابات العامة، مستغلًا تعبئة الرأى العام خلف قضية سد النهضة، وتفشى فيروس «كورونا المستجد».
السلطات الإثيوبية قطعت الاتصالات وحجبت خدمات الإنترنت عن كامل البلاد، وشهدت العاصمة الإثيوبية، الثلاثاء، ٣ انفجارات، تسببت فى مقتل ٧ على الأقل، والأربعاء، انتشر الجيش الإثيوبى فى المدينة بسبب اتساع رقعة الاحتجاجات. ولا تزال الشرطة تحاول تفريق الحشود بالغاز المسيل للدموع، ونقلت مصادر عديدة عن شهود عيان أنهم يسمعون من حين لآخر أصوات الرصاص، وفى الزحام، تاه الكلام عن الانتخابات المؤجلة.
إلى الآن، قتلت الشرطة الإثيوبية، وليس أعداء الخارج والداخل، أكثر من ٨٠ مواطنًا، خلال الاحتجاجات، وقد يُضاف إليهم عشرات آخرون، مقابل خلاص أبى أحمد من جوهر محمد، الذى اتهمه مفوض الشرطة الإقليمية، فى بيان، بمحاولة اغتيال قيادات فى الحزب أو الائتلاف الحاكم، وبمحاولات اغتيال، حدثت فى يونيو ٢٠١٩، واتهمه أيضًا بمحاولة اختطاف جثة المطرب المغدور، والذهاب بها إلى مقر الحزب أو الائتلاف لكى تكون غطاءً لاغتيال قياداته!.
هل تتذكر كلام أبى أحمد أمام البرلمان الإثيوبى، الذى تراجع عنه لاحقًا، عن استعداده لحشد مليون مواطن للقتال من أجل سد النهضة؟
فى الجلسة نفسها، التى انعقدت فى أكتوبر الماضى، شنّ المذكور هجومًا حادًا على جوهر محمد، واتهمه بأنه يعبث بأمن البلاد، وتوعد باتخاذ تدابير للسيطرة على وسائل الإعلام، التى يملكها، ووقتها، حاولت قوات الأمن اعتقال جوهر، لكنها لم تتمكن من ذلك، بسبب الاحتجاجات الواسعة التى أعرب خلالها المتظاهرون عن خيبة أملهم فى أبى أحمد، وأحرقوا صوره وكتابه، الذى أصدره بعد فوزه بجائزة نوبل، ورفعوا لافتات عليها عبارة «من يلمس جوهر يمسّ أعيننا»، وعلى شبكات التواصل الاجتماعى، امتلأت آلاف الحسابات بصور «جوهر»، وبتدوينات وتغريدات، تؤكد شعبيته الكبيرة، لدى أبناء عرقيته، الأورومو، ولدى الشعب الإثيوبى إجمالًا.
مع تكرار فشل محاولات أبى أحمد لتقليص نفوذ جوهر، وتقليل شعبيته والحد من حضوره الإعلامى، تزايدت مخاوفه من ذلك السياسى المحنك، الخطابى المؤثر، الذى يتمتع بصلات قوية مع قادة الأحزاب، خاصة الكيانات السياسية الأورومية الكبيرة، ولهذا كان إعلان جوهر محمد عن ترشحه فى الانتخابات القادمة انقلابًا فى اللعبة السياسية، وإيذانًا بأفول نجم رئيس الوزراء الحالى، داخليًا وخارجيًا، وسببًا مباشرًا فى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى!.
توترات بين نحو ٥٠ عرقية وقومية مختلفة اللغات، وصراعات بين الأقاليم التسعة أو العشرة ذات الحكم الذاتى، وأزمات داخلية وخارجية لا حصر لها، ومنافس قوى بات التخلص منه ضرورة، بعد تأجيل الانتخابات، التى لن تكون نتيجتها فى صالح الائتلاف الحاكم. فهل يكون عاقلًا مَن يتجاهل ذلك كله، ويتعامى عن المستفيد من اغتيال معارض شرس، ذى شعبية كبيرة، ويوجه إصبع الاتهام إلى مَن لا ناقة لهم، ولا خروف، فى تلك المعجنة؟!