رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تفكيك العميد.. المفكر أسعد دوراكوفيتش: آراء طه حسين غير علمية

المفكر أسعد دوراكوفيتش
المفكر أسعد دوراكوفيتش

ثَمّة روابط وثيقة تجمع المُفكر والمستعرب البوسنى أسعد دوراكوفيتش بالعالم العربى وبمصر على وجه الخصوص، ففضلًا عن اهتماماته المُتنوعة بالتراث العربى والأدبى بصفة خاصة وتخصصه فى الدراسات الشرقية، فإن رسالته للماجستير عام ١٩٧٦ كانت بعنوان «آراء طه حسين فى تاريخ الأدب ونقده فى كتابه حديث الأربعاء»، كما أنه نال درجة الدكتوراه عن رسالة حملت عنوان «نظرية الإبداع المهجرية فى الولايات المتحدة»، وفيها درس أعمال أدباء عرب بارزين فى المهجر الأمريكى، وله عدد من الدراسات المُتعلقة بالأدب العربى، نجدها فى كتابه «دراسات فى أدب البوسنة والهرسك وفى الأدب العربى»، وكذلك فى كتابه «من الاستشراق إلى علم الشرق»، الصادر فى طبعة حديثة مؤخرًا عن دار «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن.
فضلًا عن ذلك، ترجم دوراكوفيتش عددًا من المؤلفات العربية إلى اللغة البوسنية ومنها «شعر المقاومة» لمحمود درويش، «دمعة وابتسامة»، و«الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران، و«الأيام» لطه حسين، كما ترجم «ألف ليلة وليلة» فى أربعة مجلدات، بالإضافة إلى ترجمة معانى القرآن الكريم عام ٢٠٠٤، وتقديرًا لجهوده فى الثقافة العربية، نال دوراكوفيتش جائزة الشارقة للثقافة العربية عام ٢٠٠٣ مناصفة مع الأديب المغربى سالم حميش، وهو عضو أكاديمية العلوم والفنون فى البوسنة والهرسك، وعضو فى مجامع اللغة العربية فى مصر، وسوريا، والأردن.
وعلى خلفية صدور كتابه «من الاستشراق إلى علم الشرق» مؤخرًا، كان لنا مع دوراكوفيتش هذا الحوار حول مسألة الاستشراق التى تحدّث عنها فى مؤلفاته، وعن التراث الأدبى العربى الذى كان أحد محاور كتابه المذكور، والذى بيّن فيه أن الأدب العربى تطوّر بشكل مُستقل عن آداب اليونان وأوروبا القديمتين، فكان الأدب الجاهلى هو مهد الأدب العربى، كما كان النص القرآنى هو النص المحورى لهذا الأدب، رغم تطوره بعد مئات السنوات. وقد وصف الدكتور صلاح جرار الكتاب فى تقديمه له بأنه «أشبه بحركة تصحيحية فى حقل الدراسات الأدبية العربية، إذ قام على تصحيح قدر من المصطلحات والمفاهيم والأحكام التى انتشرت طويلًا عن الأدب العربى، بشعره ونثره، وعن القرآن الكريم، وصلته بالأدب العربى».. وإلى الحوار:

■ «من الاستشراق إلى علم الشرق» ليس فقط عنوانًا لكتابك، الصادر حديثًا فى طبعة جديدة، لكنه موقف متحفظ على مصطلح «الاستشراق» بيّنته فى هذا الكتاب وفى كتاب آخر لك تُرجم بعنوان «دراسات فى أدب البوسنة والهرسك وفى الأدب العربى».. إلى أى مدى تعتقد أن الاستشراق فى الوقت الراهن ما زال مُحتفظًا بصورته الكلاسيكية وهدفه الرئيسى كمُعبِّر عن المركزية الأوروبية وداعم لها؟ ما حجم التغيير فى واقع الاستشراق راهنًا مقارنة بالماضى؟
- أعتقد أن الاستشراق هو فى الحقيقة مصطلح أيديولوجى، وليس فقط تسمية لعلم معين يهتم بأمور الشرق العربىالإسلامى، ما أقصده هنا أن الاستشراق كان وما زال عبر تاريخه عِلمًا هدفه الأساسى الهيمنة أو السيادة على العالم الإسلامى أو العالم العربى قبل كل شىء، وذلك عن طريق العلم الغربى، الذى يعتمد على المركزية الأوروبية وتفوقه على الثقافات الأخرى، لقد كان الاستشراق ولا يزال وسيلة سياسية وأيديولوجية لسيادة الغرب على العالم العربى، على الرغم من أنه يتظاهر بالعلمية والموضوعية.
وبصورة عامة لم يتراجع الاستشراق، حتى الآن، عن أهدافه التى اهتم بها فى الماضى، حيث لا يمكن أن نفرق الاستعمار عن الاستشراق فى الماضى، مثلما لا يمكن أن نفرق بينه وبين تدمير العالم العربى حاليًا، لأن الغرب يؤكد لجماهيره أن الإسلام هو دين الظلم والإرهاب الدولى، وهذا كذب وافتراء طبعًا، وهناك استثناءات نادرة. ومن أهم أهداف الاستشراق أن يفهم العالمُ العربى ذاتَه وجوهره كما يفهمه ويوضحه الغرب نفسه، بعبارة أخرى، يحاول الاستشراق دائمًا أن يأتى «بالبراهين» بأن الشرق لا يستطيع أن يفهم نفسه دون مساعدة المستشرقين.
ولا بد لنا من الاعتراف بأن الاستشراق قد نجح إلى حد ما فى تحقيق أهدافه الأساسية، والمؤسف كما يبدو أن الأمور لم تتغير كثيرًا فى هذا الموضوع، على العكس، العالم العربى اليوم، أو أغلبه، فى حالة انهيار ودمار وتخلف بالمقارنة مع الغرب، وفى رأيى أن السبب الأساسى والعام لهذا الوضع يكمن حقيقة فى أن ذلك العالم ليس مبتكرًا وفعَّالًا «subject ذاتًا» لواقعه ولحاضره، بل أصبح «object موضوعًا» لقوى خارجية تستفيد من الاستشراق كـ«علم وأيديولوجيا».
■ أود التوقف معك حول مسألة الاستلاب من قبل الآخر على كل المستويات، والتى باتت أغلبية الشعوب مُتماهية معها، بل ومُدافعة عن منطقيتها.. إن كان ذلك الوعى السلبى بالذات قد تأسس بعد عهود من الاستعمار، فما أسباب استمراريته وتعضيده راهنًا؟
- استلاب الآخر والسيطرة عليه هو من طبائع البشر ويعم أغلب المجتمعات، أتوقع أننا نتفق على أن تاريخ البشرية هو فى الحقيقة تاريخ الحروب والفتوحات والمدافعة عنها، لأن من طبيعة الإنسان الأنانية المتجذرة، وفقًا لذلك نستنتج أن الاستعمار ما كان موجودًا فقط فى ذلك العهد الذى نسميه «عهد الاستعمار»، بل كان وما زال حاضرًا، إلا أنه كان يغير مسمياته ومناهجه لتحقيق أهدافه، ولهذا السبب السلبى كانت الأديان عبر تاريخ البشرية تتدخل فى تصحيح أخلاق الإنسان والمجتمعات، إن عهد الاستعمار ما زال حاضرًا، بل هو أشد فى زمننا، إلا أنه يغير مناهجه وأشكاله، وأهم وسائل الاستعمار فى زمننا ترتهن للبنوك العالمية والأيديولوجيات المختلفة المستحدثة، مثل رهاب الإسلام «islamofobia» وغيرها، كما أن آلهة عالمنا الحديث هى الكسب «profit»، وهذا هو منبع أساسى لمشاكل عالمنا الذى نعايشه.
■ من المستوى العام إلى المتخصص، نجد أن فى كتابك حديثًا عن الأدب العربى، الذى تطور بشكل مُستقل عن آداب اليونان وأوروبا القديمتين، كما أنك تُعيد تحقيب الأدب العربى وفقًا لخصائصه الفنيّة.. كيف بدأ يتشكل اهتمامك بالتركيز على تلك المسألة المُهمَلة بدرجة كبيرة فى الدراسات العربية؟
- عندما نتحدث حول هذا الموضوع لا بد لنا من العودة إلى مفهوم الاستشراق. أقصد أن الاستشراق كان يقيِّم الأدب العربى الكلاسيكى وفقًا لمقاييسه ومعاييره التى احتواها الأدب الغربى بالذات، نظرًا لأنه كانت هناك اختلافات كبيرة بين الأدب العربى والغربى، فقد قيّمقدّر الأدباء الغربيون الأدب العربى الكلاسيكى تقييمًا سلبيًا فقط لأنه يختلف عن الأدب الغربى. هذه هى فكرة أساسية للاستشراق ونسميها «المركزية الأوروبية»، إنه من غير المعقول، مثلًا، موقفهم بالمقارنة بين الأدب العربى القديم وبين عهد الرومانطيقية الأوروبية على سبيل المثال، فيستنتجون أن قيمة الأدب العربى الكلاسيكى أقل بسبب اختلافه عن الرومانطيقية الأوروبية، لا بد من التكرار بأن هذا هو موقف المركزية الأوروبية و«اللاعلمية».
فى العصر الجاهلى وفى العهد الكلاسيكى كان الأدب العربى يقوم ويتطور على مبادئ الشعريةالأدبية، التى اختلفت تمامًا عن تلك التى يقوم عليها الأدب الغربى، والتى تعود إلى فهم الأدب وفقًا لأرسطو، هذا موضوع مهم، وليست لدينا مساحة كافية لنفسره بالدقة والتفاصيل، لذا أرجو من القراء الرجوع إلى كتابى، ولكن يمكننى القول بصورة موجزة هنا إن جوهر نظرية «poetic» أرسطو يكمن فى زعمه أنه لا بد أن يكون لكل أثر أدبى «ابتداء- وسط- نهاية» ونسمى هذا المبدأ التركيبى الأفقى، وتنبع منه الميزات التركيبية للأثر الأدبى، أما الأدب العربى الكلاسيكى فتتركب أو تبنى الآثار الأدبية وفقًا لمبادئ الأرابيسك التركيبية «arabesc»، ونسمى هذا المبدأ بالدائرى. إذن هناك فرق من حيث المبدأ، لقد اطلع العرب القدماء وأخذوا علومًا كثيرة من اليونان القديمة، ولكن العرب كانوا يطورون أدبًا مستقلًا عن الأدب اليونانى، لأن بين الأدبين فروقًا تركيبية أساسية، أما فى العصر الحديث فقد تغيرت الأمور وارتقت التأثرات.
■ قلت فى معرض حديثك عن النص القرآنى والتراث فى كتابك: «بسبب النص القرآنى غيّر العرب، وبشكل كامل، نظرتهم للعالم، ثم غيّروا هذا العالم نفسه أيضًا».. لكن فى الوقت الراهن ثمة من يروج من المثقفين العرب أن النص القرآنى يروّج للعنف والإرهاب.. إلى أى مدى يُمكن اعتبار رواج مثل ذلك الفكر تعبيرًا عن حالة من الاستلاب الفكرى؟
- فى الجزء الكبير من دراستى قمت بتوضيح فهم الدنيا لدى العرب فى الجاهلية، وذلك عن طريق تفسيرى للتشبيه البلاغى السائد فى شعرهم الجاهلى، من جهة، وعن طريق تفسير الاستعارة السائدة فى نص القرآن الكريم، من جهة أخرى، ليس التشبيه والاستعارة أداتى البلاغة فقط، بل هما يعبران كثيرًا عن فهم الدنيا، الحقيقة التاريخية أن القرآن الكريم لم يغير الأدب العربى فقط، بل غيّر العرب أنفسهم أيضًا وغيروا بعد ذلك العالم القديم كله، يمكن القول إنهم غيروا حتى عالمنا هذا، لأننا لا يمكن أن نتصور العالم الغربى عمومًا دون عهد النهضة، لأن الثقافة الغربية تطورت على أسس النهضة ويعود الفضل لإقامة النهضة الغربية إلى العالم الإسلامى الكلاسيكى، الذى نقل إلى ذلك العالم الثقافات القديمة مثل اليونانية القديمة، أما هؤلاء الذين يدّعون أن النص القرآنى يروّج للعنف والإرهاب، فهذا كذب يستخدمه «المروجون» كحجة للاستلاب الفكرى وللإرهاب الدولى المنظم ضد العالمين العربى والإسلامى. لقد جرت الحروب والإرهاب ضد ذلك العالم خلال قرون متتالية.
■ لمَ باتت النظرة السلبية للدين الإسلامى هى الأكثر شيوعًا فى الأوساط الثقافية العربية والعالمية؟ هل يمكن رد ذلك إلى بزوغ تلك التنظيمات المتطرفة وجماعات الإسلام السياسى التى استغلت النصوص الدينية لخدمة مصالحها؟
- فى الأديان كلها، تاريخيًا وحاليًا، تستخدم أحيانًا نصوصها المقدسة لأغراض سلبية ولأهداف رديئة، على الرغم من أن تلك النصوص أصلًا ليست سلبية، وعلى سبيل المثال يزعم «C. G. Yung»، أنه قد حدثت باسم المسيحية أكثر وأشد الجرائم فى تاريخ البشرية! هناك فى العالم الإسلامى أو العربى أيضًا استخدام نص القرآن الكريم بطريقة سلبية تمامًا لخدمة مصالح الأفراد والجماعات المعينة، وهم لا يعرفون أنهم فى النتيجة الأخيرة يستخدمون النص هكذا لمصالح الجماعات والمنظمات الغربية، التى تبحث عن الحجة للهجوم على مصالحهم الحقيقية، قد كتبت حول هذا الموضوع كتابًا عنوانه «الحروب الحالية بين المسلمين: الفهم الخاطئ للإسلام» وآمل أن ينشر الكتاب بالعربية.
■ قضيت عامًا دراسيًا فى مصر ١٩٧٧- ١٩٧٨ للتخصص فى دراسة اللغة العربية.. ما الانطباع الذى تشكّل لديك خلال تلك الفترة؟ وما الذى كان مفاجئًا لك عن مصر وشعبها لم تكن تعرفه؟
- شكرًا لك على هذا السؤال لأنه يعيدنى إلى أسعد فترة من حياتى، كنت وما زلت أعتقد أن مصر من أجمل وأفضل البلاد فى العالم كله حقًا، وكنت قد عبرت عن انطباعى أو اعتقادى هذا بالكلمات التالية فى مقدمة ترجمتى «ألف ليلة وليلة» «١٩٩٩»: «فى مصر يحس ويشعر الإنسان بأن السماء أقرب من سطح الأرض مما هى فى أى مكان آخر فى الدنيا». أصبحت سعيدًا وغنيًا جدًا بإقامتى فى مصر وكنت معجبًا دائمًا برقة شعبها وبثقافتها، وخاصة بتسامح شعبها وبعيون فتياتها التى لن يجد المرء مثيلًا لها فى الدنيا، إن مصر عالم خاص وكامل، ولن أنسى تلك الليالى فى الحدائق، والمقاهى على النيل، هناك كل شىء متميز، وهناك يفهم الإنسان الأزلية، لم أستطع أن أتصور فى فترة العجائب التى عايشتها فى مصر أننى سوف أصبح فى المستقبل البعيد عضوًا فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة «٢٠١٢».. وهو شىء عظيم فعلًا.
■ كانت رسالتك للماجستير عن طه حسين فضلًا عن ترجماتك له، وقد قلت «ينبغى القول بأن الأعمال الكاملة لطه حسين ليست غير مهمة، ولكنها لا تتناسب مع الصيت الدولى للمؤلف، والفضل فى هذا يعود إلى الاستشراق».. هذا الرأى فضلًا عن أنه غير شائع وجرىء بدرجة كبيرة، فربما هو أيضًا يثير حساسية أجيال ممن يتبعون خطى طه حسين بحذافيرها فى الوقت الحالى.. كيف ترى ذلك الأمر؟
- هذا السؤال ممتاز أيضًا، أرجو أن يغفر لى القول بأن «حالة» طه حسين ترمز وتمثل العلاقات بين بعض المثقفين العرب وبين المستشرقين، لا شك أن طه حسين شخص ذو أهمية فى الثقافة العربية عمومًا والمصرية خاصة، وكنت قد ترجمت له منذ سنوات كتاب «الأيام» وكتبت أطروحة الماجستير عن كتابه «حديث الأربعاء».
ولكن لا بد من القول إن طه حسين تأثر كثيرًا بآراء ومواقف المستشرقين، وخاصة بالفرنسيين منهم، لقد كان يبحث ويتناول كثيرًا الأدب العربى معجبًا بآراء المستشرقين الفرنسيين والإيطاليين، وكثيرًا ما كانت تلك الآراء غير موضوعية وغير علمية حقًا. ومن ناحية أخرى فقد شَهَره هؤلاء المستشرقون لأنه وافق آراءهم، فقد سمى بعميد الأدب العربى، وهذه هى أحبولة الاستشراق.
سآتى بمثل واحد فقط، فقد زعم طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» أن الشعر الجاهلى لم يوجد إطلاقًا، بل هو اخترع أو دوِّن فى العصر الإسلامى ونسب إلى أسماء شعراء غير موجودين فى الواقع، إنه بزعمه هذا يحذف تراث العرب الذى يفتخرون به. هل يمكن، مثلًا، أن نتصور أن ينكر أحد وجود الأدب اليونانى القديم؟! هذا أمر جلل، مستحيل ورهيب، وإضافة إلى ذلك فإن زعم طه حسين هذا يعنى أن القرآن الكريم لم يكن «على صواب» لأنه يذكر كثيرًا الشعر الذى وجده عند العرب فى العصر الجاهلى.
■ هل ترى أن ثمة مجايلين لطه حسين كانوا أكثر استحقاقًا منه بالتقدير؟ ومن واقع اهتمامك بالأدب العربى هل تكررت مسألة الصيت الدولى المُبالغ فيه لبعض الأدباء فى الأجيال اللاحقة؟ وما السبب؟
- فى رأيى، لقد كان هناك زمن طه حسين أدباء أو علماء متخصصون فى الأدب أكثر استحقاقًا للتقدير، من حيث العلم غير المرتبط بالتيارات السياسية أو الأيديولوجية مع أن رأيى هذا لا يعنى أننى أنكر قيمة طه حسين ومكانته فى تاريخ الأدب العربى. كانت له أهميته لكن له خطاياه أيضًا، من المتوقع أن بعض الناس لن يوافقنى نظرًا لأننى أتحدث عن أن الأدب وروح الأدب هو فى القيمة التى تقوم على العلاقات بين الذات والذى تقيِّمه الذات، أقصد بالقول إن القيمة نسبية وليست مطلقة، فمن المتوقع أن نتناقش أو نجرى الحوار حول القيم الفنية، ولكنى أعتقد أنه كان فى مصر من هو أكثر استحقاقًا: شوقى ضيف ومحمود عباس العقاد ومحمود تيمور مثلًا، نحن نشهد أن مسألة أو قضية الشهرة الدولية المبالغ فيها لبعض الأدباء تتكرر فى تقييم أو تقدير الأدباء والسياسيين وغيرهم فى العالم كله، يكفى أن آتى هنا بمثال جائزة نوبل للأدب وغير الأدب، والتى تتضاءل قيمتها باستمرار، لماذا يحدث هذا؟ يحدث هذا الانحدار بالجائزة إذا تدخلت السياسة أو الأيديولوجيا فى تقييم أو تقدير الفن أو العلم، لأنه لا انسجام بين هذين المجالين.
■ فى العقود الأخيرة، هل ثمة من تتابع إصداراته الفكرية والأدبية فى العالم العربى وترى أنه يُشكل علامة جيدة مُعبرة عن الخصوصية العربية أو المحلية لبلده؟
- لا بد لى من الاعتراف بأنه يصعب علىّ أو على أى فرد أن يتابع الإصدارات الفكرية والأدبية فى العالم العربى بأكمله، نظرًا لأن الإصدارات تتعدد كثيرًا، فأذكر أنه قد أصبح صعبًا على شخص أن يلم بها بشكل كامل، لقد أصبح العالم العربى عالمًا واسعًا ويبدو لى من أفق تطلعى وموقفى أن هذا العالم لم يتغير كثيرًا من زمن طه حسين إزاء الاستشراق، وأود أن أقول إن هناك «إبداعات» أو آثارًا فى مجال الأدب والنقد تستحق كل التقدير والاهتمام، وإن ذلك الأدب يتطور بسرعة عجيبة، وفى سياق هذا الحديث يكفى أن آتى بمثل تطور الرواية العربية، لم يكن فى التراث العربى عهد الرومانطيقية أو الواقعية فى القرنين ١٨ و١٩ مثلما كان فى التراث الأوروبى حين ازدهرت الرواية، بل تطورت الرواية العربية لمدة قرن فقط تقريبًا، منذ بداياتها حتى جائزة نوبل لآثار نجيب محفوظ. ونجد فى الوقت نفسه فى العالم العربى والعالم الإسلامى عمومًا أدباء ممن يحاولون إثارة إعجاب الغرب بمؤلفاتهم التى لها مواقف سلبية إزاء تراثهم وثقافتهم، متوقعين أن الغرب سوف يقدر موقفهم هذا و«يغدق عليهم» الجوائز، أنا أسمّى هذه الظاهرة بـ«autoorientalism الاستشراق الذاتى»، إذن يبدو أننا لا نستطيع أن نهرب نهائيًا وتمامًا من قيود الاستشراق إلى حرية الفن والعلم الحقيقى.