رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلقات «الطوق» التركى.. هل تتحول لقواعد احتلال للمنطقة؟ «١-٢»


الإمبراطورية العثمانية استمرت أكثر من ستة قرون «من يوليو ١٢٩٩ حتى أكتوبر ١٩٢٣»، سيطرت على جزء كبير من جنوب شرق أوروبا، وأجزاء من وسط أوروبا وغرب آسيا والقوقاز وشمال إفريقيا والقرن الإفريقى.. إمبراطورية واسعة، لا تغيب عنها الشمس، شكلتها قوة الدولة التركية، وسلوكياتها شديدة العدوانية، التى طبعت بصماتها فى التاريخ الإنسانى بمذابح جماعية أشهرها ضد الأرمن، وما زلنا نلمسها حاليًا على كل الجبهات، وأحدثها مذابح ترهونة.. هذه الإمبراطورية بدأ انهيارها قى القرن ١٩، إلى أن تفككت تمامًا.. مصر خرجت من العباءة التركية، وخضعت للاحتلال البريطانى.. فرنسا تدخلت فى لبنان.. صربيا استقلت.. واليونان تحررت.. وأُجبرت تركيا على التخلى عن بيلوبونيز وجزر بحر إيجة.. تركيا فرض عليها العودة للانكماش داخل حدودها.
الرجل التركى «المريض» دخل الحرب العالمية الأولى ضمن المحور المضاد للحلفاء «روسيا، بريطانيا، وفرنسا»، أملًا فى أن الانتصار قد يوقف انهيار الإمبراطورية، ولكن بظهور ملامح الهزيمة بدأ توزيع الغنائم وتقنينها، بـ«اتفاق القسطنطينية» السرى بين دول المحور مارس ١٩١٥.. «سايكس بيكو» بين بريطانيا وفرنسا مايو ١٩١٦.. «معاهدة سيفر» الأولى أغسطس ١٩٢٠ التى فرضت على تركيا التنازل عن كل مستعمراتها.. ثم «معاهدة لوزان» يوليو ١٩٢٣، التى تخلت فيها تركيا عما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، وعادت إلى حدودها بعد سلسلة من التنازلات.. «اتفاقية لوزان» ألغت الخلافة، وأسرت الخليفة ونفته خارج تركيا، صادرت جميع أمواله، أعلنت علمانية الدولة، ومنعت تركيا من التنقيب عن البترول، واعتبرت مضيق البسفور الرابط بين البحر الأسود وبحر مرمرة ثم إلى البحر المتوسط ممرًا دوليًا لا يحق لتركيا تحصيل رسوم من السفن المارة فيه.
مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة «١٩٢٣- ١٩٣٨»، راعى قيود لوزان فى صياغته للسياسة الخارجية التركية، ورفع شعار «تركيا ليست راغبة فى بوصة واحدة من أراضى الغير، لكنها لن تتخلى عن بوصة من ترابها».. أحمد داود أوغلو أعاد صياغة هذه السياسة عام ٢٠١٠ وأطلق عليها «صفر مشاكل»، لكن أردوغان أجبره على الاستقالة من منصبه كوزير للخارجية أغسطس ٢٠١٤، ومن حزب العدالة والتنمية الحاكم مايو ٢٠١٦.. الرئيس التركى كشف عن اتجاهاته فى أكتوبر ٢٠١٦ عندما هاجم أتاتورك ساخرًا «فى لوزان، أعطينا جزرًا قريبة، إلى حد أن صوتكم هنا يمكن سماعه هناك.. هل هذا نصر؟!».. أردوغان يستهدف توسيع التواجد العسكرى التركى عبر الشرق الأوسط وإفريقيا، بنشر قوات جوية وبرية وبحرية فى مناطق ذات أهمية استراتيجية، متحديًا بهذا مصالح منافسيه فى الإقليم.. تركيا سعت لنشر قواعد عسكرية متقدمة، فى عمق محيطها غير المستقر بالشرق الأوسط وإفريقيا، تنفيذًا لهدف استعادة نفوذ الإمبراطورية العثمانية، والتحول من جديد إلى قوة عالمية، قادرة مع انتهاء مدة اتفاقية لوزان فى ٢٠٢٣ على التنقيب عن الغاز، والتخطيط لحفر قناة جديدة تربط بين البحرين الأسود ومرمرة، تمهيدًا للبدء فى تحصيل الرسوم من السفن المارة، وهذا يكشف أهداف قواعده التى تحيط بالمنطقة، حيث امتدت الإمبراطورية العثمانية.
غزو شمال سوريا والعراق
تركيا قامت بغزو الشمال السورى من خلال عدة عمليات، استهدفت إخضاعه لسيطرتها العسكرية، بحجة تخليصه من ديكتاتورية النظام الحاكم مرة، ونفوذ قوات سوريا الديمقراطية مرة أخرى، حيث تتهمها بالتعاون مع حزب العمال الكردستانى «PKK»، الذى تصنفه تركيا كمنظمة إرهابية.. عملية «درع الفرات» امتدت من نهر الفرات فى الشرق حتى مدينة أعزاز إلى الغرب «من أغسطس ٢٠١٦ حتى مارس ٢٠١٧».. «غصن الزيتون» استهدفت مدينة عفرين يناير ٢٠١٨.. «نبع السلام» استهدفت مُدن تل أبيض، القامشلى، عين عيسى ورأس العين الحدوديّة أكتوبر ٢٠١٩.. السيطرة التركية تمتد بطول الحدود مع سوريا، وبعمق حوالى ٣٥ كم، إضافة إلى التواجد العسكرى المكثف بمحافظة إدلب، حيث تتمركز ١٢ نقطة قوية، تجاوزت كثافة القوة العسكرية فيها حدود مراكز المراقبة، وأصبحت قواعد انطلاق عسكرية، وذلك إضافة لـ٥٠ نقطة مراقبة، القوات التركية تتراوح بين ١٠ و١٨ ألف جندى، ما يعنى احتلالًا عسكريًا لإدلب، بخلاف الشريط الحدودى.
أشهر مواقع الوجود العسكرى التركى بالعراق يقع فى «بعشيقة»، على بعد ٣٠ كيلومترًا شمال شرق الموصل.. يمتد إلى تسعينيات القرن الماضى، بموجب الاتفاق مع حكومة إقليم كردستان، بهدف رصد ومحاربة عناصر «PKK».. التواجد التركى ازداد كثافة بعد اجتياح «داعش» للموصل منتصف ٢٠١٤، وتلقى تركيا طلبًا بالتدخل من محافظ نينوى!!، مهمة المعسكر تركزت على تدريب قوات البيشمركة الكردية، ودعم ميليشيات التركمان.. أردوغان صرح فى مارس ٢٠١٨ بأن أمن بلاده يتطلب السيطرة على مساحات من العراق وسوريا!!، بعدها بأيام أكد الإعلام التركى أن أنقرة تخطط لإنشاء قاعدة عسكرية بمنطقة «هاكورك» بإقليم كردستان، وهى منطقة جبلية متاخمة للحدود التركية حيث تنشط عناصر «PKK».. القواعد التركية شمال العراق تجاوزت ١٥ حتى نوفمبر ٢٠١٨، رغم أنها لا تحظى بقبول شعبى.. أهالى ناحية شيلادزى بمحافظة دهوك هاجموا معسكرًا للقوات التركية يناير ٢٠١٩، واستولوا عليه، وأحرقوا محتوياته عقب فرار الجنود الأتراك، وذلك اعتراضًا على الغارات التركية والقصف المدفعى المتكرر الذى يوقع الضحايا من سكان القرية.
التغلغل التركى فى عمق الأراضى السورية والعراقية استند إلى التوافقات والعلاقات الخاصة التى تربط أنقرة بموسكو وطهران من ناحية، واستغلال الخلافات الأمريكية الروسية من ناحية أخرى.. العراق حاول التخلص من الكابوس التركى بشتى الوسائل، المحاكم العراقية أصدرت أمرًا بالقبض على «أثيل النجيفى»، محافظ نينوى السابق، بتهمة تسهيل دخول القوات التركية.. وبعد تحرير «الموصل»، التقى حيدر العبادى رئيس الوزراء الأسبق مع بنعلى يلدريم رئيس الوزراء التركى السابق رئيس البرلمان الحالى، وتوصلا إلى اتفاق يقضى بسحب القوات التركية من معسكر «بعشيقة»، لكن ذلك لم يتسن تنفيذه على الأرض.. العمليات العسكرية التركية فى يونيو ٢٠٢٠ «عملية مخلب النمر» تجاوزت فى عمقها ١٠٠ كم داخل الحدود العراقية، فى تجاهل كامل لسيادة العراق.. توازنات القوى هنا تفرض نفسها، ولن يعتدل الميزان إلا عندما يعود العراق قادرًا على الدفاع عن أمن حدوده، وسيادة أراضيه ضد التدخلات الأجنبية.
القواعد العسكرية فى قطر


تركيا بدأت تتطلع نحو التواجد العسكرى فى قطر منذ ٢٠١٤، وذلك من خلال توقيع اتفاقية تعاون بين وزارتى دفاع البلدين، تنص على إقامة قاعدة عسكرية تركية، ونشر ٥ آلاف جندى تركى على الأراضى القطرية.. فى ٧ يونيو ٢٠١٧، بعد يومين فقط من إعلان مقاطعة «الرباعى العربى» لقطر، سارعت تركيا إلى تفعيل الاتفاق، بإقراره من قبل البرلمان.. الدوحة كثفت تعاونها مع أنقرة لا سيما فى المجال الأمنى، إذ افتتح أردوغان بموجب الاتفاقية قاعدة عسكرية تركية، أطلق عليها قاعدة «طارق بن زياد» التى تتعدد المنشآت العسكرية بها، وتتسع لقوات عسكرية تربو على ١٦ ألف جندى، حيث شهدت تدريبات عسكرية مشتركة، بخلاف نشر قوات تركية فى قطر لتأمين النظام الحاكم، وذلك قبل إقامة قاعدة أخرى أطلق عليها «خالد بن الوليد» العسكرية.
السبب الرئيسى لإنشاء القواعد التركية فى قطر هو رغبة أردوغان فى الاستيلاء على صندوق الاحتياط النقدى القطرى، الذى يعتبر أكبر رصيد تمتلكه دولة فى العالم، وتوفير احتياجاته من النفط والغاز بأسعار تفضيلية، وضمان تمويل مشروعه التوسعى الخاص باستعادة الإمبراطورية العثمانية، استنادًا إلى إنعاش حركة الإخوان بالمنطقة، فضلًا عن ضمان التواجد العسكرى الدائم فى الخليج، ومكايدة السعودية والإمارات.
التواجد العسكرى لتركيا داخل قطر بدأ مؤخرًا يتخذ أبعادًا جديدة، من خلال عملية ممنهجة لإدماج الجنود الأتراك داخل النسيج الاجتماعى، وتعليمهم اللغة العربية، تمهيدًا لمنحهم الجنسية القطرية.. قطر تتصور أنها تستوعب الضباط الأتراك، لكن الحقيقة أن تركيا ابتلعت قطر، وبدأت عملية هضمها، رغم أنها فى الحقيقة قد لا تستطيع حمايتها من أى تهديد جدى، نظرًا لعدم تمتعها بإسناد عسكرى لوجستى كبير فى المنطقة، وليست لها بوارج عسكرية فى الخليج، ولا تستطيع إرسال إمدادات جوية إلا بعد موافقة العراق أو إيران، كما لا يوجد لها ممر برى، إلا إذا ما قررت التحالف مع طهران ضد دول الخليج، وهو ما لن تسمح به الولايات المتحدة، بوجودها العسكرى المكثف فى المنطقة.
باقى حلقات «الطوق» التركى فى الصومال وشمال قبرص، ومحاولاتها الفاشلة للقفز على السودان واليمن، وطبيعة الحلقة المفقودة فى ليبيا ومستقبلها.. تفاصيل بالغة الأهمية، سيتم تناولها الجمعة المقبل إن شاء الله.