رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى أصول العنصرية الأمريكية (3)


تناولنا فى المقالين السابقين طرفًا من أصول العنصرية الأمريكية، وألقينا الضوء على القسوة الإجرامية فى التعامل مع الشعوب الهندية، أصحاب الأرض الأصليين، الذين تعرَّضوا لواحدة من أحط حملات الإبادة العنصرية فى التاريخ الإنسانى، قُتل فيها، حسب الإحصاءات الفعلية، نحو ١١٢ مليون إنسان، على يد جماعات «الواسب WASP الزنابير أو الدبابير»، «البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت»، الذين منحوا أنفسهم رسالة إلهية مُنتحلة، تزعم أن الرب وهبهم هذه القارة الثرية البكر، بلا شريك، باعتبارهم «آل إسرائيل الجُدد»، وأحلّ لهم إبادة «الكنعانيين الجُدد»، الهنود، أهل المكان، عن بكرة أبيهم بلا رحمة أو شفقة، وهل يرحمُ مُؤمنٌ مُتبتل الكفرة والمشركين الملاعين؟
ولقد تنافست الدول الأوروبية، فى عهد التوسع والاستعمار والنمو الاقتصادى، على جلب العبيد من المستعمرات الإفريقية، المُختطفين عنوة، والمنقولين بالسفن عبر رحلات شاقة، فى زنازين بائسة، يموت منهم المئات فى كل رحلة، لكى يفلحوا الأرض، ويرفعوا عُمد البيوت الجميلة والبنايات الشاهقة، ويشاركوا فى دفع آلة الإنتاج الرأسمالى الناشئ، كقسم رَث من أضعف فئات «البروليتاريا» الحديثة وأسوئهم حظًا، مُتحملين عبء الأعمال الشاقة و«الوضيعة»، ومُتلقين مُعاملة كمعاملة السائمة والحيوانات، بل وربما كانت معاملة الحيوانات، كالخيول والكلاب والثيران، أرفق وأقل عُنفًا.
مارس البرتغاليون النخاسة منذ منتصف القرن الخامس عشر، أما الإسبان، فقد اشتغلوا بتجارة العبيد مع مطلع القرن السادس عشر، لخدمة مُستعمراتهم فى المناطق الاستوائية بأمريكا اللاتينية، كعُمَّال زراعيين بنظام السُخرة، ولم تكد سنوات منتصف ذلك القرن تبدو فى الأفق حتى كانت إنجلترا تتقدم للمنافسة على تَزَعُّم حلبة تجارة العبيد فى العالم؛ ولمَ لا؟! أليست هى «الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس؟»، ثم سرعان ما اندفعت باقى الدول الاستعمارية لمزاحمتها فى مضمار بناء شبكات الاتجار فى البشر، وجلب العبيد مثل: «البرتغال وفرنسا وهولندا والدنمارك، وغيرها».
وهكذا، فمنذ القرن السادس عشر تحولت تجارة العبيد إلى «أهم السلع» التى تسعى الدول الاستعمارية للفوز بنصيب الأسد فيها، وتأسست شركات غربية كُبرى تملك جيوشًا، وتحميها أساطيل جوّالة تذرع البحار والمُحيطات، واحتدت المنافسة بينها، وفى مقدمتها «شركة الهند الشرقية» البريطانية، التى سعت، بجانب استنزاف ثروات القارة الإفريقية البكر، إلى جلب ملايين الأفارقة المُستَعبدين، لخدمة رفاهية السادة البيض، وضمان ازدهار اقتصادهم.
أما أمريكا، فرس السباق الفتى، فقد اشتدت حاجتها إلى أيد عاملة عفيّة ورخيصة، لمواكبة التوسع فى الزراعة وخاصة القطن، وجلب لها النخّاسون الهولنديون، فى بدايات القرن الـسادس عشر أولى دفعات العبيد الأفارقة، التى أفرزوها للخدمة الشاقة فى مُستعمرات العالم الجديد، وزادت أعدادهم باضطراد مع القرن السابع عشر، وساعد فى الإقبال على استخدامهم تدنى أجورهم وبساطة مستلزمات عيشهم، وبالذات فى ولايات الجنوب، حيث عوملوا أسوأ معاملة، حُرموا فيها من أبسط حقوقهم الإنسانية، والأخطر أنهم مُنعوا من الاستئناس بهويتهم الأصلية، أو الركون إلى ثقافتهم العميقة.
ويذكر «جون ويزلى بلاسينجيم»، فى كتابه المعنون بـ«مجتمع العبيد»- «The Slave Community»، أن الجماعات المُستجلبة من القارة الإفريقية البعيدة تعرَّضت لمُمارسات قسرية مُمنهجة، استهدفت «تجريد العبيد من أى ملمح لثقافة، أو أى حياة عائلية، أو أى ديانة، أو أى رجولية ذات معنى أو ذات شكل مُمَيَّز»، وروجّ مُلاك الأرض والعبيد لاعتبارهم: «أنصاف رجال خاضعين وأنصاف أطفال طيّعين».
وفى المقابل، قاوم الأفارقة المُستَعبدون والمستبعدون، بكل ما أوتوا من قوة، للسيطرة على حياتهم، وحسب «بلاسينجيم»: فـ«عوضًا عن تطبُّع العبيد بهوية سادتهم والرضوخ الكامل لهم، تمسَّك العبيد بما تبقّى لهم من الثقافة الإفريقية، وأنموا إحساسًا بقيمتهم فى الأحياء الخاصة بهم، وقضوا معظم أوقات فراغهم بعيدًا عن مراقبة البيض، وتحكّموا فى مَناحٍ مهمة فى حياتهم، ومارسوا بإرادتهم الشخصية بعض الأنشطة الفردية ذات المغزى»، وهو المسار الذى نلاحظ امتداداته، فيما يلفت نظرنا من تصرفات وأحداث تشغل أمريكا والعالم، فى الشهر الأخير، بعد مقتل شخص إفريقى أمريكى، بقدم أحد عناصر «الواسب» على النحو المعروف.
وكما يذكر «رمضان عيسى الليمونى»، فى كتابه المعنون بـ«أمراء الاستعباد: الرأسمالية وصناعة العبيد»، فقد اعتمدت المؤسسات الرأسمالية بشكل كامل على قوة عمل العبيد الأفارقة، بعد إبادة السُكّان الأصليين لأمريكا، كوسيلة لإحداث التراكم الأوَّلى لرأس المال، وتحولت مدينة «نيويورك»، حيث يقبع نصبها الأشهر: تمثال «الحرية تنير العالم»، إلى أكبر ميناء رئيسى فى المعمورة لاستقبال تجارة الرقيق.