رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد مكى عاريًا




فى زمن ما، كان هناك من ينتسب إلى الصرح القضائى المصرى العظيم، وكان هؤلاء المنتسبون يتحدثون عن استقلال القضاء، كان الحديث بلغة نفهمها وبلكنة نعرفها، ولكنك لم تكن تستشعر فيها الحياة! فكنت ألوم على نفسى أننى لم أشعر بهم وهم يتحدثون، فكنت إذا غابت المعانى عنى ورأيت أن كلامهم يشبه الكلام، وأن معانيهم تشبه المعانى، ولكنها عرائس بلا روح، فكنت أنظر إلى وجوه المتحدثين لعلى أشعر فى ملامحهم وانفعالاتهم بالصدق، ولكن بصرى كان يرتد إلىّ وهو حسير، إذ لم يستطع أن يصل إلى مكامن النفوس، ولكنّ شيئًا ما فى صدرى كان يقول: إننا على مسرح وإن هؤلاء مجرد شخوص فى مسرحية لم يتقن مُخِْرجُهَا تحريكهم، ولم يستطع المؤلف أن يضع الكلمات على أفواههم، فكان الواحد منهم ينفعل انفعالًا مسرحيًا مبالغًا فيه حتى يستطيع أن يحصل على أكبر كم من التصفيق من جمهور القاعة.
كان هذا هو الشعور السائد فى نفسى، ولكننى رأيت ناسًا من الناس يصدقونهم ويهتفون لهم، فقلت لنفسى: ما أكذب علم الفراسة، لقد خاب هذا العلم فى هؤلاء، وبعد أن وصل الإخوان للحكم عاد لى إيمانى بعلم الفراسة، فقد كانت رموز تلك المجموعة التى أطلقت على نفسها «تيار الاستقلال» تقف مع الإخوان ومحمد مرسى، رئيس الدولة آنذاك، فى القضاء على استقلال القضاء، بل إن منهم من أسهم فى صياغة الإعلان الدستورى، وحتى لو لم يكن أحدهم قد ساعد مرسى فى كتابة هذا الإعلان الدستورى الفاسد فإنهم وقفوا بجانب مرسى فى مخالفته، ودافعوا عن هذا الإعلان وبحثوا عن آلاف التبريرات له، حقًا ما أصدق علم الفراسة.
الآن يجب أن تستخدم ذاكرتك القريبة وأنت تنظر إلى الأيام الفوائت، ولتحدق البصر بها حتى لا تغادر عينيك، أمعن النظر فيها، دقق حتى لا تفوتك بعض التفاصيل الصغيرة، هل تظن أنك تنظر إلى الحقيقة أم إلى السراب، فلربما كنت ما تراه ليس حقيقيًا، فنحن الآن فى زمن مبارك، وبالتحديد فى الخمس سنوات الأخيرة، إنهم يقفون الآن يهتفون باستقلال القضاء، ويعقدون اللقاءات السياسية بعدد من زعماء حركات المعارضة، ويشتركون فى بعض مظاهرات الشارع، ثم يعقدون الصفقات فى الخفاء، ولا ضير فإنهم أبطال المشهد، وقد كان استقلال القضاء آنذاك هو الثوب اللائق للمعارض الأنيق الذى يبحث عن مصداقية أمام الناس، فلنتوشح بالأوشحة ولنقف أمام نادى القضاة مع عدد من قيادات الإخوان وغيرهم، ولنهتف «يحيا استقلال القضاء.. يحيا استقلال القضاء»، الآن سننال التصفيق الحاد من الجماهير، وسينظر إلينا الشعب البسيط نظرة عرفان وتبجيل، وسيشد الناس على أيدينا، وتنشر الصحف صورنا، وسنصبح زعماء هذه الأمة.
ثم انظر معى بعد ذلك إلى الصورة الحقيقية، لم يمر على المشهد الأول إلا سنوات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما زال صدى الهتافات الأولى يخرق الآذان، «يحيا استقلال القضاء»، وقامت الثورة، وتم خلع مبارك ونظامه، ومرت الأحداث وأصبح الحاكم هو تنظيم الإخوان، وأصبح الرئيس هو محمد مرسى، ويجلس أمامنا الآن أحد رموز استقلال القضاء، وشيخ من شيوخهم، إنه نائب رئيس محكمة النقض الذى ارتدى دائمًا ثوب المناضل والمدافع عن القضاء وحريته واستقلاله، وأسس مع غيره من القضاة «تيار الاستقلال»، ولكن الدنيا لا تسير على وتيرة واحدة، ومن أتقن التمثيل سيكشف وجهه الحقيقى للناس ذات يوم، سيكشفه حرصه على السلطة، وتبعيته لتنظيم الإخوان، ويا لبؤس تلك السلطة التى أذلت أعناق الرجال! وتبًا للإخوان الذين حوّلوا بعض الرجال إلى عبيد لهم، فما أن ارتمى أحمد مكى فى حضن السلطة، وجلس على كرسى وزارة العدل، حتى تحوّل إلى آخر، أو قل عاد إلى صورته الحقيقية الخالية من أى رتوش أو إضافات.
صمت أحمد مكى عن الذى قام به النظام الإخوانى من إهدار لهيبة القانون، واعتداء على استقلال القضاء، وليته سكت فقط، ولكنه شارك وأعد وأسهم، ولعل ذنب أحمد مكى الأكبر الذى لا يُغتفر هو صمته عما تعرضت له المحكمة الدستورية العليا من عدوان وحصار ومنع قضاتها من أداء عملهم أو حتى دخول مقر المحكمة، ومنذ توليه الوزارة أصبح مكى مدافعًا عن جماعة الإخوان ونظام حكمها، وشهدت فترة توليه الوزارة سقطات وهفوات كبيرة شهد بها الجميع، ولعل شهادة نقيب المحامين السابق سامح عاشور بأنه أسوأ وزير عدل فى تاريخ مصر تملأ القلوب بالأسى، فما كان أحد يتصور أن تكون هذه هى نهاية أحمد مكى، وأن يكون السوء هو ما سيُشار إليه به فى التاريخ.
سيذكر التاريخ، وقد ذكر بالفعل، أن أحمد مكى وقف موقف المتفرج أمام ما قام به الحاكم الإخوانى محمد مرسى من إهدار وهدم للقانون والدستور واستقلال القضاء عندما أصدر الإعلان الدستورى فى ٢٢ فبراير ٢٠١٢، ثم قيامه بعزل النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود الذى لا يُعزل، وتحصينه لقراراته من الأحكام القضائية فى سابقة لم تحدث فى التاريخ القضائى المصرى، وإعلانه عن أنه لا يجوز لأى جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع الدستور.
كل هذه القرارات وقف منها المستشار أحمد مكى عضو «تيار الاستقلال» موقف المتفرج! ولم نرَ منه موقفًا شجاعًا أمام ما يتعرض له زملاؤه من إقصاء واضطهاد من قِبل نظام مستبد، ثم عاد ليصرح بأنه قام برفض الإعلان الدستورى قبل أن يصدر، وحتى بعد صدوره، كما أنه رفض عزل النائب العام الأسبق عبدالمجيد محمود، ولكنه فى الوقت ذاته أعلن عن أنه يرفض أيضًا عزل النائب العام الإخوانى طلعت عبدالله؛ «لأن تعيينه جاء بشكل قانونى» ويا لضيعة القانون عندما يهدره رجاله.
ثم كانت تصريحاته حول وفاة الناشط السياسى محمد الجندى، عضو التيار الشعبى، لقد وقف شعرى مما قاله! حتى إن أحد أصدقاء مكى قال لى وهو يستمع لتقريره: ليتنى مت قبل هذا ولم أسمع أحمد مكى وهو يبرر قتل الإخوان للثوار، فقد قال مكى إن وفاة محمد الجندى كانت نتيجة اصطدامه بسيارة مسرعة، ثم ظهر تقرير الطب الشرعى الذى أبطل ادعاءات مكى، لقد كان مكى بتصريحه هذا شريكًا للقاتل الإخوانى، بل إننى أستطيع اتهامه بإخفاء آثار الجريمة والتعمية عليها حتى لا يتم تعقب القاتل.
فقد كشف التقرير الذى تسلمه عمرو عوض، مدير نيابة قصر النيل، عن مفاجأة مثيرة، حيث تضمن أن الإصابات التى لحقت بالجندى لا تنتج عن حادث سيارة، سواء كان حجم السيارة كبيرًا أو صغيرًا، فيما رجح التقرير أن الوفاة قد تكون نتيجة تعذيب، وأحمد مكى وقتها كان وزيرًا للعدل، ومصلحة الطب الشرعى تقرر أن محمد الجندى تعرض لتعذيب أدى لوفاته، وأن الإصابات التى لحقت به لا يمكن أن تنتج عن حادث سيارة، ومكى يكذب وقال إن الوفاة نتيجة حادث سيارة، ويا لضيعة الرجال.
وللأسف فإنه إزاء الإخلاص الشديد فى أداء أحمد مكى لعمله على أكمل وجه، فقد كافأته جماعة الإخوان وقامت بتعيين نجله «محمد» عضوًا فى مجلس القضاء الأعلى القطرى، وراتبه الشهرى يتجاوز ٥٠ ألف دولار شهريًا، ولم ينكر مكى ذلك بل أعلنها بكل تكبر، قائلًا: «جاء اسم ابنى محمد فى قائمة تضم ١٨ قاضيًا آخرين، طلبت قطر إعارتهم، ما المشكلة فى ذلك؟.. أنا لم أندبه، بل قطر هى التى طلبته مع زملائه شأنه شأنهم، وسينزل درجة على خلاف ما نشر أنه يعار فى نفس درجته القضائية، وأنا أنصحه بأنه يروح ويبعد عنى».
ومن قناة «الجزيرة» القطرية يطل علينا أحمد مكى بأكاذيب يخجل منها أصحاب الضمائر الحية، ولكن لا ضير، فبتلك الأكاذيب سينال محمد أحمد مكى مكافآت ومكافآت، وسيرتقى فى سلك القضاء القطرى مع رفاقه من القضاة الإخوان الذين هربوا إلى قطر، أما الذى يضحكنا من فرط الدهشة، أنه عندما خرجت المظاهرات ضد نظام حكم الإخوان إذ بأحمد مكى الذى كان يطالب بإلغاء حالة الطوارئ فى زمن مبارك، يخاطب الرأى العام مطالبًا بإعلان حالة الطوارئ، مدعيًا أن الله وضع الطوارئ فى القرآن، وسبحان الله الذى أمهل لعبادٍ يستغلون دينه كما يشاءون ويدعون على قرآنه ما يريدون، ويبررون بالدين كل شىء مقيت.
لم يدافع مكى عن حقوق المظلومين والمقهورين، بل تعدى عليهم وصفع أحدهم على وجهه، حيث أكد عزت عبدالعزيز سالم، سائق بوزارة العدل، أن الوزير أحمد مكى، وزير العدل، قام بصفعه على وجهه، أمام الجميع. لم يكتف مكى بذلك بل اعترف باعتدائه على موظف بالوزارة، وقال: «هذا من حقى وواجبى». كان هذا الاعتداء هو أهون الاعتداءات، فالذى لطم وجه رجل من بنى الإنسان الذين كرمهم الله، سبق أن لطم وجه استقلال القضاء المصرى، ولله فى خلقه شئون.
وإذا كان هذا هو أحمد مكى الذى خلع أمام العالم رداء الحياء، فمن هو أحمد مكى الذى ارتدى أمام العالم رداء الأكاذيب وهو يدافع عن محمد مرسى وأحداث الاتحادية؟ هذا ما سنعرفه فى المقال المقبل إن شاء الله.