رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مَنْ وراء سد النهضة؟


جميعنا يتساءل عن تلك التصريحات العنترية والمواقف المتعنتة التى تتخذها إثيوبيا فى مباحثات سد النهضة إلى الحد الذى وصلت فيه للتهديد باستخدام القوة ضد الدولة المصرية، بالإضافة إلى تجاهلها وعدم اعترافها بالمواثيق والاتفاقيات الدولية التى تتعلق بالمجارى والأنهار، التى أصدرتها منظمة الأمم المتحدة عام ١٩٩٧، والتى تحافظ على حقوق الدول التى تمتد وتجرى فيها هذه الأنهار، كما أنها تنكرت لاتفاق التفاهم الذى أبرم عام ٢٠١٥ بين مصر والسودان وإثيوبيا، الذى يهدف إلى مراعاة حقوق الدول الثلاث فى المياه والتنمية.
من هنا كان لا بد أن نقف على أسباب هذه التصريحات، وتلك المواقف، وما هى القوى الداعمة للجانب الإثيوبى التى جعلته يتصرف وكأنه سيد الموقف، وأن الجميع يدور فى فلكه.
لن نذهب إلى التاريخ البعيد الذى يعود إلى عام ١٣٦٥، وما سجله هذا العام من بدء ظهور الحلم الإثيوبى فى السيطرة على نهر النيل، واستمرت تلك الأطماع حتى وقتنا هذا، بيد أن هناك العديد من العوامل لا بد أن نعترف بأنها ساعدت فى تحقيق هذا الحلم البعيد، لعل من أهمها نجاح الدول الاستعمارية، مثل إنجلترا وفرنسا، فى تأجيج مشاعر الكراهية للدولة المصرية، من خلال بث الشائعات حول سعى مصر للسيطرة بالقوة على منابع النيل، واستمرت تلك المشاعر حتى وقتنا هذا للأسف الشديد بالرغم من توقيع العديد من البروتوكولات بين البلدين، كان آخرها فى يوليو ١٩٩٣ الذى نص على عدم قيام أى من الدولتين بعمل أى نشاط يتعلق بمياه النيل قد يسبب ضررًا بمصالح الدول الأخرى، والتشاور والتعاون بين الدولتين بغرض إقامة مشروعات للحفاظ على مياه النيل، أو العمل على زيادة تدفقها وتقليل الفاقد منها.
ثم جاءت محاولة اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك فى إثيوبيا لتزيد الفجوة السلبية فى العلاقات بين البلدين، وجعلت مصر تتباعد بشكل كبير عن الساحة الإفريقية عمومًا وعن إثيوبيا خصوصًا، وهنا لعبت إسرائيل دورها فى التغلغل داخل الدولة الإثيوبية وقامت بالعديد من المشروعات الزراعية والاستثمارية هناك بشكل جعلها شريكًا رئيسيًا فى تنمية تلك الدولة مقابل الاستفادة من خصوبة أرضها لزراعة العديد من المنتجات التى تحتاجها إسرائيل. يأتى هذا بالإضافة إلى نجاح الطائفة اليهودية فى إثيوبيا فى مساعدة إسرائيل على هذا التوغل الذى جاء على حساب الكنيسة المصرية التى كانت تعتبر الكنيسة الإثيوبية امتدادًا لها فى إفريقيا.
كانت فكرة إنشاء السدود على مياه النيل الأزرق فى إثيوبيا قد ظهرت فى الأفق مرة أخرى عام ١٩٦٤، حيث قام مركز الاستصلاح الأمريكى بإجراء أكثر من دراسة لإنشاء هذا السد، ولكن بصورة أقل مما هى عليه الآن، واستغلت إثيوبيا أحداث يناير ٢٠١١ وما تلاها للبدء فى بناء سد النهضة، حيث قامت بعملية حشد شعبى داخل إثيوبيا، بل وفى القارة الإفريقية كلها، ضد الدولة المصرية، متهمة إياها بأنها تقف ضد مصالح هذا الشعب وتعارض حقه فى التنمية والازدهار، ونجحت بالفعل الحكومات المتعاقبة هناك فى الحصول على دعم وتأييد وتوحيد الشعب الإثيوبى الذى يعانى من مشاكل داخلية وانقسامات قبلية، بل ومعظم الدول الإفريقية، حتى وصلت الأمور إلى أنها صورت مصر بأنها «الشيطان الأعظم»، وأنها سوف تضرب أى سد يقام على نهر النيل، وقد جاء المؤتمر الكوميدى الذى عقده الإخوانى محمد مرسى- الذى تم نقله على الهواء مباشرة- ليؤكد من خلال آراء وأفكار ساذجة أن مصر سوف تقف ضد بناء أى سد أو أى نهضة وتنمية للشعب الإثيوبى.
وما إن تم ذلك حتى سارعت العديد من الدول والشركات الدولية العملاقة فى عرض خدماتها على الحكومة الإثيوبية للمشاركة فى بناء السد، حيث تم إسناد بنائه بالأمر المباشر لشركة «سالينى» الإيطالية، وشاركت الصين بإحدى شركاتها وإقراض إثيوبيا ما يعادل مليار دولار من أجل بناء مشروع خط نقل الطاقة الكهربائية لمشروع السد، ثم شاركت شركة «ألستوم» الفرنسية فى أعمال التوربينات والمولدات الكهربائية.
هذا بالإضافة إلى الدعم المالى الكبير الذى قدمته كل من قطر وتركيا والاتحاد الأوروبى وبعض رجال الأعمال والمستثمرين العرب، ومن أبرزهم محمد العامودى المولود فى إثيوبيا لأب سعودى، حيث تبرع بمبلغ ٨٨ مليون دولار للحكومة الإثيوبية لتغطية نفقات إنشاء السد، التى تبلغ حوالى ٥ مليارات دولار. أما على الجانب العسكرى، فقد اتفقت تركيا على صفقات عسكرية لدعم الجيش الإثيوبى وتدريبه لمواجهة أى احتمالات لمواجهات عسكرية مع مصر أو السودان، فى حين نشرت إسرائيل حول جسم السد منظومة صواريخ «سبايدر» لحمايته من أى هجوم جوى.
وسياسيًا، فليس خافيًا أن هناك العديد من الدول تسعى إلى دعم إثيوبيا فى المحافل الدولية، إما حفاظًا على مصالحها الاقتصادية هناك، أو لممارسة ضغوط على الدولة المصرية لتقديم أى تنازلات فى مواقفها السياسية المختلفة، ومن أبرز تلك الدول إسرائيل وقطر وتركيا، وأضيفت إليها مؤخرًا إيطاليا التى ما زالت تطالب بحسم موقف مقتل المواطن الإيطالى ريجينى بالرغم من تقديم كل الأدلة والتسهيلات التى تؤكد عدم مسئولية الجانب المصرى عن مقتله.
هذا بالإضافة إلى أن الداخل الإثيوبى لم يعد مهيئًا لأى تراجع عن موقف حكومته من بناء السد أو التفاوض بشأنه، بالرغم من تلك المرونة التى أداها الجانبان المصرى والسودانى مؤخرًا فى مباحثات التفاوض بينهم، لدرجة أن مصر وافقت على النزول بحصتها خلال فترة ملء السد من ٥٥ مليار متر مكعب إلى ٣٧.٥ مليار متر مكعب على أن تعود النسبة لما كانت عليه بعد ذلك، إلا أن إثيوبيا رفضت الالتزام بذلك رغم هذا التنازل الكبير من الجانب المصرى. ومن هنا، فلم يعد مستغربًا تلك المواقف الملتوية للجانب الإثيوبى، وتلك الحجج الواهية التى تتذرع بها، حتى وصل الأمر إلى التهديد باستخدام القوة ضد الدولة المصرية والإعلان صراحة عن أن بلاده لن تتوسل لمصر والسودان للسماح لها باستغلال مواردها المائية، وأنهم سوف يبدأون فى ملء خزان السد فى بداية شهر يوليو المقبل مع بدء موسم الأمطار حتى ولو كان ذلك دون اتفاق. ومن هنا نكون قد وصلنا إلى تحديد الحكومات والدول والشركات العملاقة التى تساند وتدفع الحكومة الإثيوبية للتمسك بتلك المواقف المتشددة حفاظًا على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية التى سوف تتحقق لها من وراء بناء هذا السد، والذى لا شك سوف يسبب أضرارًا كبيرة لكل من مصر والسودان.
ومن هذا المنطلق، فإن الواجب الوطنى للشعب المصرى يحتم علينا الآن الالتفاف حول القيادة السياسية، ومد يد العون والمساندة لدعم الدولة المصرية فيما تواجهه من تحديات تستوجب دعمًا شعبيًا منزهًا عن جميع المصالح والأهواء الشخصية، وأن تعلو المصلحة الوطنية فوق كل الطموحات الشخصية والفئوية والحزبية، وندعم السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى اتخاذ تلك القرارات المصيرية لمواجهة هذه التحديات والأخطار التى قد تحدق بنا نتيجة تعنت الجانب الإثيوبى واستكمال مشروعه دون النظر إلى مصالح وحماية ووجود الشعب المصرى، وأعتقد أن هذا هو واجبنا الآن والذى لا يختلف عليه أى وطنى مخلص غيور على مصرنا الغالية.
وتحيا مصر