رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القواعد التركية بليبيا ومخاطر عملية «البحر المفتوح»


المخطط التركى لتشييد قواعد عسكرية فى ليبيا، لم يبدأ كما هو شائع بعد توقيع أردوغان مذكرتى التفاهم مع فايز السراج 27 نوفمبر الماضى، بشأن التعاون الأمنى والعسكرى، وتحديد مناطق الصلاحية البحرية، ولكنه بدأ قبل ذلك بشهور.. فقد توصلت تركيا إلى تفاهمات مع السراج خلال زيارته إلى إسطنبول 5 يوليو 2019، على تحويل مطار مصراتة، الذى كان يستخدم كمنشأة لتدريب طلبة الكلية الجوية، إلى قاعدة عسكرية جوية لاستيعاب الطائرات التركية المسيرة والعتاد القادم من تركيا، لكن ميليشيات السراج عجزت عن توفير الحماية الكافية لعمليات البناء، فتمكن سلاح الجو التابع للجيش الوطنى من شن عملية عسكرية «استراتيجية» فى أغسطس 2019، استغرق الإعداد لها قرابة شهرين عبر الاستطلاع الجوى والبرى، ومصادر المعلومات، ونجح فى تدمير أساسات المشروع بصورة كاملة.
صحيفة «ينى شفق» التركية المقربة من الحكومة كشفت، فى 10 يونيو 2020، عن أنه خلال لقاء أردوغان والسراج فى أنقرة 4 يونيو 2020، قدم الأخير تنازلات جديدة منحت لتركيا المزيد من الصلاحيات وحرية الحركة العسكرية، وذلك بالموافقة على قيام تركيا بتشييد قاعدتين عسكريتين دائمتين فوق الأراضى الليبية.. الأولى: قاعدة الوطية الجوية العسكرية، حيث تقوم تركيا حاليًا بإصلاح البنية التحتية فيها، وإزالة الألغام الموجودة بمحيطها، تمهيدًا لإعادة تشغيلها، ثم تطويرها بتمويل قطرى ضخم، لتصبح أكبر قاعدة عسكرية جوية فى الشمال الإفريقى وأكثرها تطورًا.. القاعدة تضم الطائرات التركية المسيرة ومنظومات الدفاع الجوى التركية.. الثانية: قاعدة عسكرية بحرية فى مدينة مصراتة الساحلية المطلة على ساحل البحر المتوسط، مهمتها الرئيسية أن تسهل لتركيا تحقيق أطماعها فى الاستيلاء على النفط الليبى، وحماية أنشطتها الاستكشافية والإنتاجية شرق المتوسط.
الصحيفة التركية حددت باقى أهداف إنشاء القاعدة البحرية، وهى مواجهة اليونان فى منطقة شرق المتوسط، والعمل على استرداد المصالح التركية فى بحر إيجة، وتأمين أنشطة التنقيب التى تعتزم تركيا البدء فيها بالمنطقة التى تدعى أنها تدخل ضمن منطقتها الحرة الاقتصادية، فى مواجهة احتمالات المواجهة مع دول المنطقة التابعة لها هذه المناطق، وفقًا لقواعد القانون الدولى، وخرائط ترسيم الحدود البحرية المعتمدة من الأمم المتحدة، وكشفت «ينى شفق» عن أن المخططات التركية تكفل لها فى النهاية الحصول على النصيب الأكبر من مصادر الطاقة شرق المتوسط.. إذن الطموحات التركية تتجاوز الحقوق التى تكفلها قواعد القانون الدولى، وتحددها الأطماع وبلطجة القوة.
تفاهمات تركيا مع السراج تضمنت أيضًا إقامة قاعدة عسكرية صغيرة قرب طرابلس العاصمة، تضم قوات خاصة تركية، ووحدة من مشاة البحرية، إضافة إلى مهبط للطائرات، وغرفة عمليات ومركز اتصالات.. دراسات الجدوى المتعلقة بهذه القاعدة، تم استكمالها منذ ديسمبر 2019، وتم دفع التجهيزات اللازمة، وإرسال القوات العسكرية المناسبة بجميع احتياجاتها.. موقع «ذا درايف» الأمريكى المهتم بالشئون الدفاعية والعسكرية كشف عن أن تركيا تبنى مهبطًا للطائرات المسيرة وسط مشروع سكنى خارج العاصمة طرابلس، ورصدت الأقمار الصناعية ورشة تجهيز ممر حيوى بامتداد 3500 قدم وعرض 105 أقدام، تمتد بين بنايات المنطقة السكنية المعروفة باسم «مشروع الموز» فى مدينة عين زارة، والتى تقع على بعد 5 أميال جنوب شرق طرابلس.. هذا بالإضافة الى بدء تركيا تجهيز قاعدة معيتيقة الجوية لتحويلها إلى قاعدة تركية، حيث تم نقل الأسلحة والرادارات وقواعد الدفاع الجوى إليها.. الدفعة الأولى من الطيارين الأتراك وصلوا بالفعل إلى طرابلس منتصف مايو الماضى، ومنطقة الغرب الليبى تتحول إلى شبكة من القواعد العسكرية ومناطق النفوذ التركى.
تركيا لم تنتظر حتى انتهائها من تشييد قواعدها فى ليبيا، وقامت بتنفيذ مناورة جوية بحرية مشتركة فى 11 يونيو الجارى، أطلقت عليها «البحر المفتوح»، تشمل نطاق البحر المتوسط الممتد من السواحل التركية حتى سواحل المنطقة الغربية من ليبيا، وذلك تأكيدًا لقدرتها على التعامل مع أهداف على مسافات بعيدة، تصل إلى 2000 كم.. المناورة تمت إدارتها من مركز قيادة العمليات فى تركيا، وشاركت فيها 17 طائرة تابعة للقوات الجوية، بينها سرب من مقاتـلات F-16، وطائرة للإنذار المبكر والتحكم المحمول جوًا من طراز E-7T، وطائرتا تزود بالوقود جوًا من طراز بوينج KC-135R، بالإضافة إلى مشاركة 8 فرقاطات وطرادات تابعة لقيادة القوات البحرية، مزودة بالصواريخ الموجهة وطائرات مسلحة بدون طيار.. المناورة استغرقت نحو 8 ساعات، وتم خلالها تنفيذ عمليات التزود الجوى بالوقود، والتدريب المشترك الجوى البحرى وغيرها، كما تم «اختبار وتطوير مهام عمليات المسافات الطويلة دون انقطاع».
المناورة التركية كانت فى الحقيقة عملية عسكرية، لأن الطائرات التركية دخلت الأجواء الليبية لتأمين الحماية العسكرية لجسر جوى يتكون من 4 طائرات شحن تركية من طراز C-130 انتقلت من تركيا إلى مطار مصراتة تحمل دعمًا لوجستيًا مهمًا.. حكومة السراج أكدت أن ذلك يتم ضمن إطار الاتفاقات المبرمة مع أنقرة، مما يرجح أن هذا السيناريو سيتكرر كثيرًا خلال المرحلة المقبلة، حتى تؤمن تركيا إمداداتها العسكرية من أسلحة ومعدات ومرتزقة، فى مواجهة احتمالات التعرض لها من جانب طيران الجيش الوطنى أو القوى الدولية أو الإقليمية التى تدعمه.
العملية تمت عقب يومين فقط من اعتراض فرقاطة وطائرة عسكرية يونانية سفينة تركية كانت متجهة إلى ليبيا، لكن الجيش التركى وجه إنذارًا بإطلاق النار قبل أن تتراجع القوة اليونانية وتفتح الطريق للسفينة التركية!.. كما أعقبت العملية تصريحات وزير الدفاع اليونانى حول استعداد بلاده لاحتمالات الصدام العسكرى مع تركيا، وهو ما فجر ردود فعل رسمية تركية غاضبة من أردوغان ووزير الدفاع خلوصى أكار، مؤكدين أن القوات التركية تحمى سفن التنقيب، وأن اليونان غير قادرة على تنفيذ تهديداتها، وسوف يتم الرد المناسب عليها.. العملية التركية فى هذا الإطار تحمل «رسالة عسكرية» لدول المنطقة تؤكد قدرتها على حماية أطماعها فى مصادر الطاقة شرق المتوسط، واستعدادها للقيام بمهام حربية داخل العمق الليبى.. والحقيقة أن هذا خطب جلل.
التحركات العسكرية التركية تعكس مدى اتساع وخطورة أطماعها التوسعية، التى صيغت فى ضوء نظرية استعادة نفوذ الإمبراطورية العثمانية على مستوى العالم، وذلك بالتزامن مع انتهاء قيود اتفاقية لوزان فى يوليو 2023، لذلك تسعى تركيا لفرض تواجد عسكرى ضخم ودائم فى ليبيا، يرتبط بصورة مباشرة بالقوة العسكرية الرئيسية على الأراضى التركية، ويتواصل معها بصورة دائمة، هذا الإجراء تحاول من خلاله أنقرة أن تؤكد أنها أصبحت القوة الرئيسية فى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، بكل ما يحتويه من ثروات نفطية وغازية، وبالتالى تفرض مشاركتها فى صنع أى قرارات سياسية تتعلق بمستقبل ليبيا، فى مواجهة مصالح كل القوى الفاعلة فى الأزمة، سواء كانت دولية «روسيا، أمريكا، فرنسا، وإيطاليا»، أو إقليمية «مصر، الإمارات، السعودية، الأردن».
تركيا تسعى أيضًا لفرض سيطرتها على ثروات الغاز المحيطة بالسواحل الليبية، مستندة إلى اتفاقاتها مع حكومة السراج، حول مناطق السيادة البحرية فى المتوسط، فضلًا عن سعيها لفرض رسوم جباية على مرور غاز المنطقة إلى أوروبا من خلال خط «إيست ميد»، الأمر الذى يمثل تهديدًا لشركائه الثلاثة «قبرص، إسرائيل، واليونان»، ناهيك عن تهديدها المباشر لمحور «القاهرة، أثينا، ونيقوسيا»، وقدرتها على تحدى دول الجوار الليبى، وتهديد أمنهم القومى من خلال التنظيمات الإرهابية والجماعات التكفيرية التى يتم تجميعها حاليًا فى ليبيا بحجة حماية حكومة السراج.
خالد المشرى رئيس المجلس الاستشارى الليبى الذى استقال من رئاسة الإخوان يناير 2019، ليتأهل لخوض معركة الرئاسة، زار تركيا مؤخرًا، استقبله أردوغان، تركزت المباحثات على بحث آليات إعادة الإخوان إلى السلطة فى ليبيا، ودورهم كأداة تدعمها المخابرات التركية، فى إنعاش نشاط حركة الجماعة على مستوى دول الشمال الإفريقى.. لكن ذلك موضوع آخر، يفرض معالجة منفردة.