رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى أصول العنصرية الأمريكية «2»


كان من أبرز المظاهر الاحتجاجية المرتبطة بالمظاهرات العارمة التى اجتاحت ولايات أمريكية عديدة، ودولًا غربية أخرى، ككندا وأستراليا وإنجلترا وغيرها، اعتراضًا على السلوك العنصرى الذى أودى بحياة الشاب الأسود «جورج فلويد»، بواسطة رجل شرطة عنصرى أبيض عملية إسقاط النُصب والتماثيل التى أُنشئت لتمجيد شخصيات عهود العبودية والاستعمار، والمُستكشفين، وتُجّار العبيد، وما شابه، ومنهم رئيس الولايات الكونفيدرالية «جيفرسون ديفيز»، وغيره من «رموز» الولايات الجنوبية التى قاتلت خلال الحرب الأهلية «١٨٦١- ١٨٦٥» من أجل الحفاظ على العبودية.
وأسقطت الجماهير تمثال «كريستوفر كولومبوس» فى الولايات المتحدة وألقت به فى بُحيرة، بعد أن كانت الجماهير الفنزويلية الغاضبة، احتجاجًا على نسبته فنزويلا إلى إسبانيا فى القرن الخامس عشر، أسقطت نُصبه التذكارى الذى كان قائمًا فى العاصمة كاراكاس، عام ٢٠٠٤.
واتسع مدى هذه الحركة، فأسقط المحتجون فى بريطانيا تمثال تاجر العبيد الشهير «روبت ميليجان»، من أمام مُتحف لندن دوكلاندز، بعد أن غطّوا وجهه بلافتة مكتوبًا عليها: «حياة السود مُهمة- Black Live Matter»، وفى الوقت ذاته تجمّع الآلاف أمام جامعة أكسفورد، مُطالبين بإزالة تمثال «سيسل رودس» الإمبريالى الشهير، ولطخت الدهانات تمثال «ونستون تشرشل»، المنصوب فى ساحة البرلمان البريطانى، وكتب المحتجون عليه: «كان عُنصريًا»، ما حدا بدوائر السلطة تغطيته بصندوق لحمايته من محاولة الإتلاف والإزالة.
وواقع الحال أن هذا الأمر يعكس انتقام التاريخ من قتلة الشعوب والأمم والأعراق، من العنصريين الأوروبيين، الذين- فى سبيل تحقيق ثرائهم وازدهار مُجتمعاتهم- لم يترددوا للحظة فى استخدام أحط وأبشع أساليب الإبادة والانتقام، لتفريغ الأرض «الموعودة» من سُكّانها الأصليين، والاستيلاء على ثرواتهم الطائلة، وأراضيهم البكر الوادعة الواعدة!، وهو ما حدا بـحاكم ولاية كاليفورنيا، «بيتر بيرنت» للإعلان الصريح فى أول جلسة تشريعية للولاية: «إن الرجل الأبيض الذى يعتبر الوقت ذهبًا.. لم يعد أمامه من خيار سوى أن يعتمد على حرب إبادة. إن حرب الإبادة قد بدأت فعلًا، ويجب الاستمرار فيها حتى ينقرض الجنس الهندى تمامًا».
وبالفعل استعرت أتون «حرب الإبادة» التى لم تستثن وسيلة إلا واستخدمها الوافدون الأوروبيون، لإبادة «الأعداء»: أصحاب الأرض بما فيها وما عليها!.
كان الوافدون مجموعات مرتحلة، تحدوهم نشوة الفتح، المُغطاة بهلاوس دينية لستر عوراتها، وتبرق أمام أعينهم وعود الاستيلاء على أرض اللبن والعسل، القارة البكر التى لم تُمس ثرواتها، ولا فُضت مكامن غِناها، وهم جميعًا ينتمون إلى ما أُطلق عليه (WASP) (White Anglo-Saxon Protestant)، أى «البيض، الأنجلو- سكسون، البروتستانت»، واختصارًا «الدبابير»، التى راحت تتسابق فى «لدغ» كل من تلقاه فى مواجهتها لتخليص الأرض من أهلها، مُدعين أنهم رُسل الله الموعودين، ويقول د. منير العكش فى كتابه المُهم: «أمريكا والإبادات الجماعية: حق التضحية بالآخر»، إن الغزاة الأوائل للقارة الأمريكية الشاسعة، التى تُقدَّر مساحتها بمرة وربع مساحة القارة الأوروبية، كانوا يسمون أنفسهم بـ«الحُجاج» و«القديسين»، وأنهم اعتبروا هذا العالم الجديد بديلًا عن «أورشليم» والأراضى المُقدَّسة. ولهذا فقد سموه بكل الأسماء التى أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان! ولا يزال التاريخ الأمريكى إلى الآن يُضفى على هؤلاء «الحُجّاج» قداسة طوباوية، ويعتبرهم أول أنموذج للاستثناء الأمريكى، الذى فضّله الله على العالمين، وأورثه ما أورث بنى إسرائيل من قبل، وهو ما يُشير إلى طبيعة العلاقة بين الأب الأمريكى، والابن الإسرائيلى المُدلل!
إن قصة هؤلاء «الحُجّاج» هى الأصل الأسطورى لكل التاريخ الأمريكى ومركزيته العنصرية.
وقد أعمل هؤلاء «الحُجّاج» المزعومون سلاح الفتك والتنكيل بـ«االكُفَّار» من أصحاب الأرض والديار، وبرعوا فى استخدام «الحروب الجرثومية» للخلاص من هذه «الكائنات» الهندية التى تعترض تنفيذ «مشيئة الرب»، ونشروا، كما تقول الدراسات المُوثقة الحديثة، ٩٣ وباءً شاملًا، منها: ٤١ جدرى، ٤ طاعون، ١٧ حصبة، ١٠ إنفلونزا، ٢٥ سُل ودفتيريا، وتيفوس، وكوليرا. وكان لهذه الحروب الجرثومية آثار وبائية شاملة اجتاحت مساحات شاسعة من الأراضى، من فلوريدا فى الجنوب الشرقى إلى أورجون فى الشمال الغربى، «بل إن بعض الجماعات وصلتها الأوبئة وأُبيدت بها قبل أن ترى وجه الإنسان الأبيض».
واعتبر «الحُجّاج» هذا الفعل مدعاة «لإدخال السرور والبهجة على قلب الله!»، ولم لا؟!، أولم يخلع «أوليفر كرومويل» الجنسية البريطانية على إلههم المصنوع، الذى ألبسوه ثوبًا استعماريًا فاضحًا، مُتفاخرًا بأن: «God is an Englishman»؟!