رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرى تكريس كنيسة القديس مينا الأثرية بمريوط


فى ١٥ بؤونة «الموافق ٢٢ يونيو» تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار تكريس كنيسة القديس مينا الأثرية بمريوط، تلك الكنيسة التى تجذب أنظار المصريين والأجانب نظرًا لتاريخها المجيد.

حدث فى صباح الثلاثاء ٢٠ نوفمبر ٢٠١٢ أن توجه وفد خبراء منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»- الذى كان يزور مصر- بزيارة لمنطقة مار مينا الأثرية بمنطقة مريوط الواقعة غرب الإسكندرية، وذلك لمتابعة مشروعات التطوير والترميم الجارية بالموقع، كأحد المواقع المصرية المهمة المُدرجة على قائمة التراث العالمى منذ عام ١٩٧٩م، والتى يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادى «العصر المسيحى».. وتحت عنوان «٥٥ مليون جنيه لترميم وتطوير منطقة أبومينا الأثرية بالإسكندرية» نشرت جريدة «الأهرام»، بعددها الصادر صباح ١٤١٢٢٠٠٩، تقريرًا عن العمل الذى يتم بأقصى سرعة لإنقاذ منطقة أبومينا الأثرية من خطر المياه الجوفية الذى يهددها منذ عشرات السنين.

تقع هذه المنطقة قرب الإسكندرية على بُعد نحو ٥٠ كيلومترًا منها، وتقريبًا فى منتصف المسافة بينها وبين وادى النطرون على طريق القوافل القديم، الذى كان يصل الإسكندرية بواحة سيوة وبرقة غربًا.. وتمتد أطراف هذه المنطقة- التى ترقى إلى مستوى المدينة- فى حدود صحراء مريوط حتى تشغل مساحة لا تقل عن أربعين ألفًا من الأمتار المربعة بما عليها من بقايا الكنائس والأديرة والحمامات والمنازل والأسواق وغيرها، وتتوسط هذه جميعًا الكنيسة الرئيسية الرائعة التى طالما انتزعت إعجاب المؤرخين القدماء فأطلقوا عليها اسم «أجمل وأعظم كنيسة مصرية»، «تحفة من روائع الفن المسيحى»، «مسرة لجميع شعوب مصر»، «الأكروبول المسيحى القديم»، وأيضًا «المدينة الرخامية».
أما الشهيد المصرى الذى تحمل المنطقة اسمه فهو القديس مينا الملقّب بـ«العجايبى»، فهو من عائلة مصرية نبيلة، وأصل والديه أودوكسيس وأوفومية من المدينة المصرية الشهيرة المسماة باليونانية «نيقيوس» وتعنى بالمصرية «المنتصرون»، وتسمى أيضًا «إبشاتى»- (التى هى الآن زاوية رزين، بمحافظة المنوفية)- باسم الحاكم المصرى الذى بنى ميدانًا فى وسطه مقصورة وقوّى أسوارها.
وقد ولد الشهيد المصرى فى عام ٢٨٥م، وانخرط فى الجندية، كأحد النبلاء، وهو يبلغ من العمر ١٥ عامًا، وشغل وظيفة نائب القائد العام للجيش بولاية فريجيا بآسيا الصغرى.. وبعد أن صدر منشور دقلديانوس، الذى يأمر كل إنسان بعبادة الأوثان، انسحب القديس مينا إلى الصحراء بغرض النسك والعبادة، وبعد أن قضى نحو خمس سنوات فى الرهبنة، غادر الصحراء إلى المدينة وجاهر بإيمانه المسيحى، واستشهد بقطع رأسه بحد السيف فى ٢٤ نوفمبر عام ٣٠٩م، وهو يبلغ من العمر ٢٤ عامًا، وبعد ذلك اصطحب بعض الجنود جسده المبارك وذهبوا به إلى منطقة مريوط وهناك تم دفنه.
كان نواة منطقة أبومينا قبرًا صغيرًا ضم رفات الشهيد المصرى مينا، ففى بداية الأمر تم بناء مقصورة صغيرة فوق قبر القديس فى أوائل القرن الرابع الميلادى، ثم أقيمت الكنيسة الأولى- فى عهد البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك ٢٠- فوق هذه المقصورة فى منتصف القرن الرابع، ولما ضاقت هذه الكنيسة بالأعداد الغفيرة المتزايدة من المُصلين، شيّدت على امتدادها من الجهة الشرقية كنيسة فخمة رحبة فى أوائل القرن الخامس الميلادى بأمر من الإمبراطور أركاديوس «٣٩٥- ٤١٨م»، الذى لم يدخر جهدًا فى زخرفتها وتزيينها بأثمن أنواع الرخام والفسيفساء والنقوش البديعة، وقد كان لهذه الكنيسة بهاء وروعة انتزعت إعجاب المؤرخين القدماء.
واشتهرت المنطقة بكميات الأوانى الفخارية الهائلة المحلاة بصورة الشهيد المصرى واسمه، التى عثر عليها فى شتى أرجاء العالم.. وكان زوار المنطقة يأتون فى هذه الأوانى بقليل من الماء- الذى كان ينبع من بئر بجوار القبر- لأقاربهم ومعارفهم الذين أقعدتهم ظروفهم الصحية عن تحمل مشقات السفر.. وكان يوجد بالمدينة نفسها عدة قنوات لنقل المياه من النبع المقدس إلى مجموعة كبيرة من الأحواض والصهاريج والحمامات والقاعات المخصصة لاستقبال المرضى.. وما لبثت أن تحولت الأرض المجاورة إلى كروم وبساتين يانعة ومثمرة، وهكذا قامت فى جوف الصحراء مدينة كاملة عامرة.. وظلت منطقة أبومينا أشهر موضع للتقديس فى مصر كلها- بعد زيارة القدس بأورشليم- زمانًا طويلًا إبان العصور الوسطى.
بدأ بعد ذلك نجم المدينة فى الاختفاء، وأخذت عوامل التخريب والتدمير تتألب عليها، حتى إن أحد الخلفاء أرسل مبعوثًا إلى مصر لاستحضار كميات من الأعمدة والألواح الرخامية لاستعمالها فى مبانى بغداد، ولما وصل هذا المبعوث إلى مصر أرشده البعض إلى كنيسة القديس مينا بمريوط، وبالفعل أخرج من الكنيسة الرخام الملون والبلاط النادر. ويذكر لنا المؤرخ أبوالمكارم أن كنيسة القديس مينا كانت لا تزال قائمة حتى القرن الثالث عشر الميلادى، بعد ذلك تكاثرت عليها عوامل التدمير وغمرتها رمال الصحراء، حتى دخلت المدينة العظيمة فى طى الصمت والكتمان والنسيان، حتى أمكن اكتشافها على يد أفراد البعثة الألمانية الأثرية التى حضرت من فرانكفورت عام ١٩٠٥م، بقيادة الأسقف الألمانى «كارل- ماريا كاوفمان» ومعه زميله «فولز».
ثم فى عام ١٩٥٩، فور جلوس البطريرك الملهم قداسة البابا كيرلس السادس على الكرسى المرقسى، حتى أبدى اهتمامًا واضحًا، بالتعاون مع جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية، لإحياء تلك المنطقة.. وكان قداسته طوال فترة رهبنته مشغولًا بإحياء تلك المنطقة وإعادتها إلى مجدها السابق، وقد عاونه فى ذلك ثلاثة من أعضاء جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية، وهم: مفتش الآثار بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية الأستاذ بانوب حبشى «١٩١٣- ١٩٥٦»، والطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى «١٩٠٨- ١٩٩٠»، وخبير رسم الآثار المصرية بالمتحف اليونانى الرومانى الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨- ١٩٧٩».. فبادر قداسة البابا بزيارة المنطقة الأثرية بصفة دورية وإقامة الصلوات بها، وكانت أول زيارة له فى يوم الجمعة ٢٦ يونيو ١٩٥٩ «أى بعد ستة أسابيع من إقامته بطريركًا فى ١٠ مايو ١٩٥٩»، وأقام قداسًا فى المنطقة الأثرية، ثم قام ببناء دير حديث يبعد مسافة- مسموح بها أثريًا- عن المنطقة الأثرية، حيث قام بوضع حجر أساس الدير فى يوم الجمعة ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩، ثم وضع حجر أساس كاتدرائية كبرى فى يوم الجمعة ٢٤ نوفمبر ١٩٦١.
إن قصة دير القديس مينا العجايبى هى قصة حب بين البطريرك الوقور البابا كيرلس السادس وبين أبنائه المحبين، الذين ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بكنيستهم ووطنهم.. ويشرف كاتب المقال أنه كان أحد الأفراد الذين حضروا احتفال وضع حجر أساس هذا الدير العظيم فى عام ١٩٥٩، وكنت وقتها طفلًا أبلغ من العمر تسع سنوات، كما أن البابا كيرلس السادس قام بتكليف الأستاذ بديع عبدالملك بكتابة اللوحة التذكارية التى وُضعت على حجر الأساس، وما زالت اللوحة التذكارية موجودة بالدير تشهد على روعة الكتابة والإتقان فى الإخراج القائم على الحب.
كان هذا الزمن هو زمن البساطة والصراحة والحب بعيدًا عن الفلسفات التى تفسد العلاقات الإنسانية.. تحية لليونسكو على مجهوداتها السخية، وتحية لروح البطريرك العظيم البابا كيرلس السادس، ولأرواح أعضاء جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية من المؤسسين.