رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بائع النصيب

عادل الغنام
عادل الغنام

بينما كنت أرتب بعض الأوراق فى مكتبتى، سقط بين يدىّ صندوق صغير ملون أهداه لى جدى- رحمه الله- منذ سنوات بعيدة.. جلستُ فى مقعدى وفتحت الصندوق، شممت فيه رائحة جدى وعبق أيام الطفولة.. قفزتْ أمام عينى صورته، وجهه دائم التبسم، وكفه الحنون الذى اعتاد أن يحتضن كفى أثناء سيرنا فى طرقات القرية يغدق علىَّ بحكمته ويروى لى ذكرياته وأحلامه التى كان يتحقق منها الكثير ولو بعد حين!
ذات نهار، وجدته مضطربًا، جلستُ فى حجره أستفسر عما ألمّ به، أخبرنى بأنه جاءته رؤيا غريبة ليلة أمس، ثم شرع وحده فى قصها.. قال لى:
«رأيتُ أثناء سيرى لصلاة الفجر شيخًا كبيرًا وجهه شديد البياض، وله شعر كثيف شديد السواد، يرتدى جلبابًا أبيض نظيفًا وفوقه عباءة خضراء، لا يبدو من أهل القرية، كان يقف جوار المسجد وأمامه عربة يد خشبية صغيرة تتراص فوقها صناديق كثيرة ذات ألوان متعددة، مكتوبًا على كل صندوق منها بعض الكلمات مع أسعارها، اقتربتُ فى شغف من الرجل، ألقيتُ عليه السلام، سألته عن هويته فأجابنى بأنه بائع على باب الله، ولم يصارحنى باسمه، سألته عما يبيع، أشار إلىّ أن أقترب لأعرف بنفسى، تفحصتُ ما فوق العربة، أمسكتُ بصندوق كبير، كان مكتوبًا عليه بخط عربى مزخرف «السعادة السعر خمسة جنيهات»، رفعت صندوقًا آخر من نفس الحجم، قرأت عليه «الصبر السعر عشرة جنيهات»، درتُ حول العربة، فإذ بكل الصناديق على ذات الحالة، متفاوتة الأحجام والأسعار؛ فهناك صناديق للثروة، وغيرها للفقر، صناديق للمرض، وأخرى للصحة.. وهكذا.. التفتُ إليه وسألته مرة أخرى:
■ ماذا تبيع يا رجل؟
أجابنى بابتسامة خفيفة:
■ أنا بائع النصيب!
حيرتنى إجابته، ارتبكتُ قليلًا:
■ وهل هذا معقول يا رجل؟ هل يشترى الناس أقدارهم؟ إذن فكل إنسان سيختار صناديق الثروة والصحة وكل الخصال الطيبة، خاصة أن سعرها أقل بكثير من غيرها!
اتسعت ابتسامته قليلًا وقال لى:
■ انظر وسوف ترى!
دخلنا المسجد لصلاة الفجر، بعد أن فرغنا من الصلاة خرجنا للعربة.. رويدًا تجمع الناس، ابتعدنا قليلًا نراقب الموقف؛ البعض يشترى ويرحل مباشرة، والبعض يساوم فى الثمن، ثم يقنعون بأن السعر ثابت فيدفعون ويرحلون.. مع بزوغ الشمس تفرق الزبائن وقد بيعت أكثر الصناديق، تفحصتُ الباقى منها فوجدتها صناديق الفرح والمحبة والصحة، التفتُ للشيخ فوجدته على وضعه الهادئ الواثق من نفسه، دعوته للإفطار معى فى المنزل فاعتذر باستحياء لأنه صائم، ثم أهدانى صندوقًا أخضر اللون وقال لى: «هذا لك أيها الرجل الطيب»، ثم دفع العربة أمامه إلى أن اختفى تمامًا!».
فرغ جدى من سرد رؤياه، قمنا بعدها بجولتنا الصباحية المعتادة بين حقول القرية.. كان يعتبرنى صديقه المقرب، لا يفوتنى الدعاء له بعد كل صلاة والترحم عليه.. أعدتُ ترتيب الصور والأوراق فى الصندوق، وضعته فى موضع مميز بالمكتبة بعدما نفضت الغبار عنه، كان يلفت النظر إليه بلونه الأخضر الهادئ والمكتوب فوقه بخط مزخرف «الحكمة.. هدية مجانية للمحبين».