رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نافذة بحجم القمر

زياد كمال حمامى
زياد كمال حمامى

الغرفة لا تسع رأسه وما يحويه..
تتناسل الهواجس فيه بعددية مُذهلة، لا يستطيع معها أَن يتماسك.. يتضخم الرأس.. يسمعُ زقزقة العصافير.. يبتسمُ.. يحومُ جسده فى أَرجاء الغرفة الصغيرة.. يُراقب تحركات عصافيره داخل أَقفاصها.. يتساءل:
- هل تشعر بى؟ أَو أَنَّنى الوحيد الذى يشعر بها؟!
القفص الأخضر «كنارى» ذو صوت مُؤثر، والأحمر الغامق «مينى لوا» ذو طبقات صوتية تبدأ مُنخفضة.. ثُم.. تملأُ الغرفة ألحانًا عالية، وأَقفاص ذات أشكال غربية، مُزدحمة بالعصافير، صَغيرها يُقلدُ كبيرها، وكبيرها يُزقزقُ مُتعرضًا، يريد الخروج إلى الحياة.
يتنفسُ بصعوبة.. رائحة العفن والبول المُتجمد فى ركن الغُرفة يدوخانه.. يعقدُ حاجبيه، يدير لهما ظهره، يشعرُ بصُداع.. تتصدع هواجسَه.. يضربُ يده على الجدار.. يُؤلمه رأْسه ويَنتفخ!؟
يدهش.. يدورُ جسده فى جسده.. تدورُ الغرفة فى العتمة.. العالم من حوله دائرة.. تضيقُ به.. تتوسع.. ينظرُ إلى عصافيره.. يرى نفسه!
يصابُ بالذعر.. يُخاطبها:
- بيننا سجين وسجان.. قولوا لى.. مَن منَّا؟
- هاها.. ها.. من شيّد الأَقفاص فى المدينة هاها.. ها.. ها؟!
...... تعلن العصافير عصيانها.. تُزقزق.
■ اعتقال:
منذُ سنة، أَو عشر، أَو رُبما أكثر؟!
لا يستطيع تحديد الوقت تمامًا، إِثر ضربة قوية تلقاها على قفا رأْسه، أمام زُملائه فى الجامعة، وعلى مرأى من حبيبته، ومنذُ ذلك الحين، أصبحت هذه الحادثة هاجسه، وفى كل مرة جديدة يُلقيها على عصافيره تختلف أَسبابها عن الأُخرى:
- اسمعوا.. ها هم يقتربون.. انظروا إلىَّ.. إنَّنى أُعارض نظام- الكلية- بلا خوف..وأَمام الزملاء.. أَمامكم..
- ياه.. ماذا حدث بعد ذلك؟!.. لستُ أَدرى!
ورُغم أَنَّه يعى الحاضر، فى صحوته، غإنَّه يُعانى من صُعوبة الفهم التى تنتابه بين البرهة والبرهة وحين سأله المُحقق الخامس:
مَن كان معك فى المُظاهرة؟
- عصافيرى.. هاها.. هاها.. عصافير.. عصا.
وتنهال عليه عصا..
يتلقاها مُؤلمة.. يسقطُ على الأرض.. تحتضنهُ.. ينظرُ إلى المُحققين بتحدٍ.. يُشاهد أَحدَهم يتجه إلى قفص العصافير الأخضر، ويُمسكُ «الكنارى» بمخالبه.. يضغطُ عليه.. يُهدده أَن يعترف.. يضغطُ عليه بقوة أَكبر.. يُشرفُ «الكنارى» على الاختناق.. يضغطُ الرجل.. يقف صارخًا فى وجه قاتل العصافير:
- اتركوها.. عصافيرى.. عصا....
يهجمُ على الشارع بالقتل بدفاع ظاهر عن حق العصافير بالطيران والحرية.. يرتعشُ المُحقق الواقف قُرب النافذة.. يهربُ «الكنارى» من قبضة الموت.. يطيرُ.. يُرفرف بجَناحيه.. يرفعُ عاشق العصافير ساعديه بشكل مُستقيم مع كتفيه، ويُلوح بهما كأَنَّه يطيرُ هو الآخر ويُزقزقُ بطبقةٍ مُنخفضة.. ثم.. يفتحُ صوته إلى آخر مداه.
يسمعُ صوتًا نشازًا لا يُحبه.. يسكت؟!
ينظرُ من النافذة الصغيرة جدًا، مُحاولًا معرفة شخصية الضحية الجديدة.. يرى ريش «الكنارى» يتطاير مع الريح.. يصرخُ مُتألمًا.. ثم.. يسقط على الأرض مُضرجًا بأحزانه.. بينما يَصيحُ رئيس المُحققين:
- اعتقلوا عصافيرَه.. بسرعة.. اعتقلوها!
■ العُقاب:
تنفجرُ الحادثةُ فى رأسه المتُصدع..
جرحٌ بليغٌ فى الرأس، لم يكن كافيًا لتحرير العصافير، وها هو الآن يشعرُ بمرارة تستلبُ مذاقه، وأَحلامه.. حينما يتذكر ما أَمره به العُقاب الأسود:
- ابتعد سآخذ عصافيرك.
- أَولادى.. اتركوهم.. دمى.. دمى.. دم.
- اهدأ.. اطمئن.. سنهضمها بحنان ولن تشعر بألم؟!
يرفعُ يديه مرة أُخرى، ويُرفرفُ بهما، يُزقزقُ، وهو يُغنى لهم بعبثية طُفولية:
«طيرى يا طيارة طيرى
يا واحة وجدران
بدى طيّر عصافيرى
عا سطح الجيران».
..... ولم يدرِ منذُ رقصتهِ تلك، وأغنيته الفيروزية، هل أخذَ العُقاب الأسود عصافيرَه؟ أَم أَنَّهم أَخذوا جسده منه؟!
■ نافذة بحجم القمر:
الأرض لا تسع رأْسه وما فيه..
تتوالد الأفكار بتشتتية مُضنية.. يفقدُ توازنهُ.. يحومُ بشكل عبثى.. ينظرُ تارةً إلى الأقفاص المُلونة، وأُخرى إلى النافذة المصلوبة بقضبان حديدية صدئة، يقف.. يمشى.. يضرب الجدار بحذائه.. يسمع صوت أحذية ثقيلة قادمة.. يقول فى نفسه:
- لا بدَّ أَنَّهم قادمون لقتل عصافيرى...
تقتربُ الأحذية..
- سأُحرركم قبل أَن يحضروا...
ويندفعُ إلى الأقفاص.. يفتحُ أبوابها.. تطيِّرُ العصافير.. تخرجُ من النافذة.. تُرفرفُ.. يقول لها:
- وداعًا.. إلى اللقاء؟!
تبتعد العصافير بعيدًا..
هُناك إلى سماء الدهشة والانطلاق، بينما يقفُ وراء النافذة مُبتسمًا يسمعُ «المينى لوا» يُزقزقُ بطبقات عالية.. عالية.. ثم يقول : «بقيت لوحدى إذن»، يشعر بالتوجس والريبة... يصرخُ:
- عصافيرى.. عصا..
يفتح باب الزنزانة رجلان..
يتقدمان منه.. يتراجع.. ينظران إلى أَرجاء الغرفة.. لا شىء جديدًا عليها.. مُجرَّد كتابات.. وكتابات.. يصرخُ فى وجهيهما مُنبهًا:
- انظروا.. طارت عصافيرى.. طارت.
ينظران مرة أخرى.. لا يُشاهدان أى جديد.. يضحكان.. يصرخُ فيهما:
- لا.. لن تستطيعوا قتل العصافير بعد الآن.
يضحكان أكثر..
يرفعُ يديه.. يُرفرفُ بهما.. يضعُ أَحدهما صحن الطعام، وكأس الماء «البلاستيكية» على الأرض.. يخرجان.. لا يأْبه بهما، ويظلُ مستمرًا فى رقصته، باحثًا عن نافذة بحجم القمر.