رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ عبدالرحمن الشربينى.. رجل التواضع والزُهد


هو عبدالرحمن الشربينى ونسبه إلى قرية «شربين»، وغير معروف تاريخ مولده وتوفى عام ١٩٢٦م، ليكون بذلك الشيخ التاسع والعشرين للجامع الأزهر على المذهب المالكى وعلى عقيدة أهل السُنة.
نشأ فى قريته «شربين» التى نُسِبَ إليها، وحفظ القرآن الكريم ثم قدم إلى القاهرة تمهيدًا للالتحاق بالأزهر، الذى درس فيه علوم الأزهر المقررة حينئذ مثل: التفسير، والحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والنحو، والصرف، والعروض، والمعانى والبيان، والبديع والأدب، والتاريخ، والسيرة النبوية، على يد كبار مشايخ عصره. كان الشيخ الإمام عبدالرحمن الشربينى محبوبًا من أساتذته، معروفًا بينهم بالتقوى والصلاح والزهد، مشهورًا بحُبِّ التعمق فى دراسة المصادر القديمة، ولما استوى عوده باشر التدريس، فلفت إليه الأنظار بعلمه الغزير مع تواضعه، وزهده، وشدة تمسكه بالتقاليد المتوارثة، وضيقه الشديد بحركات التجديد، وكان- وهو عالم كبير- يتواضع ويتطامن أمام شيوخه.
ولما ظهر نبوغه رشحه أساتذته للتدريس بالأزهر الشريف، وكان فاهمًا مشكلات الدراسة والتدريس ويميل إلى دراسة أمهات الكتب والمتون، وكان يحث الطلبة على التعمق فى أصول أمهات الكتب، ودراسة هذه المصنفات، وكان الشيخ عازفًا عن الدنيا وزاهدًا فيها وكان مؤمنًا بفكرة المحافظة على القديم مشفقًا على الأزهر من التطور «المذموم» فيهجر علوم الدين إلى علوم الدنيا.
تولَّى الشيخ الإمام عبدالرحمن الشربينى مشيخة الأزهر فى ٨ مارس سنة ١٩٠٥م، بعد إلحاح من الخديو عليه لقبول هذا المنصب، وأقام الخديو بهذه المناسبة حفلًا كبيرًا خلع فيه كسوة التشريفة على الإمام الشربينى، وألقى خطبة محتفيًا بالشيخ، قال فيها: «إن الجامع الأزهر قد أسس وشُيِّدَ على أن يكون مدرسة دينية إسلامية تنشر علوم الدين فى مصر وجميع الأقطار الإسلامية، وأول شىءٍ أطلبه أنا وحكومتى أن يكون الهدوء سائدًا فى الأزهر الشريف، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقى العلوم الدينية النافعة، البعيدة عن زيغ العقائد وتشعب الأفكار؛ لأنه مدرسة دينية قبل كل شىء».
ومن هنا يتضح مدى العداء الذى أضمره الخديو لمحاربة رجال الإصلاح والتجديد فى الأزهر الشريف، وأشاع بأن العلوم الحديثة جناية على الدين، وأن الإسلام يكرهها، وعندما وجد فى الشيخ الشربينى عزوفًا عن الدنيا وزهدًا فيها، اعتقد أنه إذا تم إسناد مشيخة الأزهر إليه، سينشغل بزهده عن أمور المشيخة، وهذا يتيح له أن يبسط سلطانه على الأزهر، ويطلق يده فى شئون الأزهر وطلابه، وبعد فترة مَرِضَ الشيخ الإمام الشربينى فلم ير الخديو عزله، وإنما انتدب الشيخ محمد شاكر للإشراف على الأزهر نيابة عن شيخه حتى يتمَّ شفاؤه، فلمَّا برئ الشيخ من مرضه باشر عمله مرة أخرى.
ذكر الشيخ محمد سليمان فى كتابه «من أخلاق العلماء»: «أنه سمع من رأى الشيخ عبدالرحمن الشربينى الذى ولى مشيخة الأزهر، وقد جاء إلى الشيخ (الأشمونى) العالم المشهور، فرآه مضطجعًا على جنبه، فوضع الشيخ الشربينى حذاءه بعيدًا، ثم أقبل متخضعًا حتى جثا ولثم يد الشيخ الأشمونى، وقال محدثى: وكان الأشمونى ربما قال له المرة بعد المرة: (إزيك يا عبدالرحمن) فيكون الشيخ كأنما حيته الملائكة».
باشر الشيخ عبدالرحمن الشربينى مهامه، فحد من حركة الإصلاح والتجديد فى الأزهر، ووقف ضد إدخال العلوم الحديثة للأزهر، وذلك خوفًا منه على الأزهر وعلمائه وطلابه من بطش الحكام، وقطع رواتب العلماء والطلاب الموقوفة عليهم، ومنع ترميم أبنية الأزهر، ومما يؤكد ذلك أن الشيخ الشربينى كان زاهدًا فى الدنيا معرضًا عن زخارفها، وأنه وقف ضد العلوم الحديثة اعتقادًا وخوفًا من أن يتهاون الطلبة فى دراسة العلوم الدينية والعربية والتحقيق والبحث فيها، وكان يخشى أن تصرفهم العلوم الحديثة عن البحث فى المصادر والأصول وتستنفد طاقاتهم، فلا يولون العلوم الشرعية واللغوية ما تستحقها من اهتمام وعناية، ويصبح الأزهر مثل باقى المدارس التابعة لنظارة المعارف «وزارة التربية والتعليم حاليًا».
وظل متمسكًا بأن يبعد الأزهر عن أهواء الساسة والحكام، ومنع كل محاولات الخديو للسيطرة على الأزهر الشريف والاستيلاء على أوقافه وأمواله وشئونه من وراء ظهر الشيخ الشربينى، فأبى عليه ذلك، وقدَّم استقالته فى ذى الحجة عام ١٣٢٤هـ.
ليس للشيخ الشربينى مصنفات ومؤلفات كثيرة، ولكنه كان متعمقًا فى الدراسات الدينية، والمراجع القديمة، ومن مؤلفاته:
(١) تقرير على حاشية البنانى على شرح المحلى على جمع الجوامع للسبكى فى أصول فقه.
(٢) تقرير على حاشية ابن قاسم على شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصارى لمتن البهجة الوردية «بهجة الحاوى» وهى منظومة فى الفقه الشافعى.
(٣) تقرير على حاشية «عبدالحكيم» على شرح السيالكوتى على شرح القطب على الشمسية فى المنطق.
الانتقادات الموجهة إلى عهد توليه المشيخة:
يرى بعض المؤرخين أن خمسة من أئمَّة الأزهر الشريف منهم الشيخ عبدالرحمن الشربينى قد شهد الأزهر فى عهدهم حالة من الضعف تمثلت فيما يلى:
(١) إنَّ منصب شيخ الأزهر فى أيامهم قد ضعُف بعدما كان قويًّا مهابًا عزيز الجانب، وصار ألعوبةً فى أيدى الحكَّام، يُقلِّدون مَن يشاءون المشيخة، وينتزعونها ممَّن يشاءون.
(٢) إنَّ مَن تولى منصب المشيخة منهم كان لا يطيقُ صبرًا على البقاء فيها لأسبابٍ، فكانوا يستقيلون المرَّة تلو الأخرى، ويعتكفون فى بيوتهم، رغبةً فى التخفُّف من أعباء وهموم هذا المنصب.
(٣) إنَّ بعض المناصب فى ذلك العصر كان لا يطالها العزل؛ مثل: عضوية مجلس الشورى، وعلى الرغم من أنَّ منصب مشيخة الأزهر كان أَوْلَى بهذه الحصانة وأحق.
ثم بعد ذلك بفترة حاول الخديو أن يُطلقَ يده فى شئون الأزهر من وراء ظهر شيخه، فأَبَى عليه الشيخ الإمام الشربينى، وبادر بتقديم استقالته من منصبه فى ٩ فبراير سنة ١٩٠٧م، فقُبلت ثم أُعيدَ الشيخ حسونة النواوى إلى منصبه فتولى مشيخة الأزهر للمرة الثانية، توفى الشيخ الإمام عبدالرحمن الشربينى سنة ١٩٢٦م.