رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى رحيل أسقف صديق الفقراء


فى ١٠ يونيو الموافق ٣ بؤونة تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار نياحة أسقف رائع هو الأنبا إبرام، أسقف الفيوم المُلقب بـ«صديق الفقراء»، إذ كان صديقًا حقيقيًا للفقراء، بل عاش مثلهم فقيرًا. ودائمًا صديق الفقراء والمُحب لهم له جاذبية خاصة عند شعبه. وهذا ما رأيناه فى جيلنا فى البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث.
سمع الكاتب الإنجليزى «ليدر» Leeder وهو فى فرنسا عن أسقف مصرى قديس، فأسرع بالسفر إلى مصر مع زوجته ليلتقياه، وقد سجل لنا فصلًا كاملًا عن حياته، فى الكتاب الذى أصدره عام ١٩١٨ بعنوان «أبناء الفراعنة المحدثون»، جاء فيه: «هذا القديس الشيخ عرفه العالم الشرقى كله، وأدرك أنه الخليفة المباشر لسلسلة المسيحيين الأولين غير المنقطعة». وعبّرت زوجته عن هذا اللقاء بقولها: «كنا فى حضرة المسيح وامتلأنا بروح الله».
وُلد هذا القديس فى مدينة «دلجا» التابعة لإيبارشية ديروط عام ١٨٢٩م. من أبوين تقيين، وكان اسمه «بولس غبريال الدلجاوى»، وقد حفظ منذ حداثته المزامير وواظب على دراسة الكتاب المقدس منذ طفولته.
وعندما اشتاقت نفسه إلى الحياة الرهبانية والتعبد والنسك توجه إلى دير السيدة العذراء مريم المعروف باسم «دير المحرق»، حيث رُسم راهبًا باسم «الراهب بولس المحرقى» عام ١٨٤٨م، وعندما دعاه الأنبا ياكوبوس، أسقف المنيا، للخدمة بالمطرانية، حوّل المطرانية إلى مقر لإقامة الفقراء، وظل بالمطرانية أربعة أعوام رُسم فيها قسًا عام ١٨٦٣.
وأذكر أنه فى إحدى زياراتى لإيبارشية المنيا فى نحو عام ٢٠٠٤ رأيت المقر البسيط جدًا الذى عاش فيه «الراهب بولس المحرقى» ثم الذى أقام فيه بعد ذلك الأنبا أرسانيوس، أسقف المنيا الراحل، وعندما أصبح المبنى قديمًا تم إخلاء المبنى تمامًا.
لحب «الراهب بولس المحرقى» فى حياة الرهبنة الصادقة عاد إلى ديره حيث اُختير رئيسًا للدير، فحضر شبان كثيرون للتلمذة على يديه، وقد بلغ عددهم أربعين راهبًا. لكنه فتح باب الدير على مصراعيه للفقراء، وخصص كل إمكانيات الدير من أجل أخوة الرب «وهو تعبير إنجيلى بمعنى الفقراء». ومن جراء هذا ثار عليه بعض الرهبان وعزلوه عن رئاسة الدير، وطلبوا منه ترك الدير! طُرد الراهب بولس وتلاميذه من دير المحرق، بسبب حبهم للفقراء، فالتجأوا إلى دير البراموس بوادى النطرون، وهناك تفرغ للعبادة ودراسة الكتاب المقدس.
وفى عام ١٨٨١ رُسم أسقفًا على الفيوم وبنى سويف والجيزة «إذ كانت وقتها أسقفية واحدة» باسم الأنبا إبرام، فحوّل الأسقفية إلى دار للفقراء. من بين تلاميذه أحد الشباب الذى صار كاهنًا فى الإسكندرية فيما بعد هو القمص باسيليوس إسحق «١٨٩٧- ١٩٨٣»، كاهن كنيسة الملاك بمنطقة غربال.
خصص الأسقف الدور الأول من داره للفقراء والعميان والمرضى، وكان يرافقهم أثناء طعامهم اليومى ليطمئن عليهم بنفسه، ولكى يرى بنفسه نوعية الطعام الذى يُقدم لهم. وكان إذا دخل عليه فقير مد يده تحت الوسادة ليعطيه كل ما يملك، وإن لم يجد يعطيه «شاله» «أى غطاء الرأس»، أو ملابسه الكهنوتية السوداء، وله فى ذلك قصص مذهلة.
ورد عنه فى سيرته العطرة أن أعيان الإيبارشية رأوا المطرانية غير لائقة لإقامة الأسقف، فاتفقوا معه على تجديدها وتوسيعها. وكانوا كلما جمعوا مبلغًا من المال سلموه له. أخيرًا جاءوا إليه يطلبون إليه موعدًا للاتفاق مع المقاول على شروط البناء، فتطلع إليهم قائلًا: «لقد بنيت يا أولادى!.. لقد بنيت لكم مسكنًا فى المظال الأبدية (أى فى السماء)». أى أنه أعطى الفقراء كل ما تم جمعه من المال. ومن الروايات المتداولة بين معاصريه أن ثلاثة شبان أرادوا استغلال حبه للفقراء، فدخل اثنان منهم يدعيان أن ثالثهم قد مات وليس لهم ما يُكفنانه به، فلما سألهما الأب الأسقف: «هو مات؟!»، فأجابا: «نعم مات». ثم هز الأسقف رأسه ومد يده بالعطية قائلًا: «خذوا كفنوه به». وخرج الاثنان يضحكان. لكن سرعان ما تحول ضحكهما إلى بكاء عندما نظرا ثالثهما قد مات فعلًا.
ذكر كثيرون ممن أقاموا فى الحجرة المجاورة لحجرته أنه كان يقوم فى منتصف الليل يصلى حتى الفجر بمزامير داود النبى، وكان يقف عن القول: «قلبًا نقيًا أخلق فىّ يا الله وروحًا مستقيمًا جددها فى أحشائى»، مرددًا إياها مرارًا بابتهالات حارة.
وقد شهد الجميع بأن صلاته كانت بروح وعزيمة قوية حتى فى شيخوخته. قال مستر «ليدر»: «لم أسمع قط فى حياتى صلاة كهذه، إذ أحسست بالصلة التى له بعرش النعمة التى تملأ الإنسان استقرارًا دائمًا. لقد بدا لى أن الأرض تلاشت تمامًا لكى تترك هذا الرجل فى حضرة الله نفسه يتحدث معه بجلاء». إننا لا نبالغ إن قلنا إن مئات بل آلاف أعمال الله العجيبة تمت على يدى هذا الرجل وبصلواته. كان بسيطًا فى ملبسه وفى مأكله، يعيش بالكفاف، ضابطًا نفسه من كل شهوة. وفى أحد الأيام اشتاق أن يأكل «فراخًا» فطلب من تلميذه أن يطبخ له ذلك. فلما أعد له الطعام قدمه، فصلى الأب وطلب منه أن يحضره له فى اليوم التالى. وتكرر الأمر فى اليوم الثانى والثالث والرابع دون أن يأكل منه شيئًا حتى فسد الطعام. حينئذ قال لنفسه: «كلى يا نفسى مما اشتهيت»، ثم رماه بعد ذلك.
يقول مستر «ليدر»: «تضايق عندما ألزمته بركوعى قدامه». من عادته الجميلة أنه ما كان يسمح لأحد من الشمامسة أن يتلو عبارات التبجيل الخاصة بالأسقف عند قراءة الإنجيل، ولا كان يميز نفسه عن شعبه بل يجلس على كرسى عادى كسائر أولاده. وكان يُسر بدعوة أولاده له: «أبينا الأسقف»، ولا يسمح لأحد أن يدعوه «سيدنا». وقد رأيت ذلك فيما بعد فى الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف المتنيح، وأيضًا الأنبا مكسيموس، أسقف القليوبية المتنيح.
وعندما زار البرنس سرجيوس «عم نقولا قيصر روسيا» وزوجته مصر عام ١٨٦٨ وسمعا عن القديس توجها لزيارته، اهتمت الدولة واستقبلته استقبالًا رسميًا، وحاول أعيان الأقباط أن يشتروا أثاثًا جديدًا للمطرانية، لكنه رفض نهائيًا. ولما جاء الزائران وركعا على الأرض والأب جالس يصلى لهما بحرارة قدما له كيسًا به كمية من الجنيهات الذهبية، أما هو فاعتذر. وأخيرًا أخذ جنيهًا واحدًا وأعطاه لتلميذه رزق. وقد خرج الأمير من حضرته يقول: «إنه لم يشعر برهبة فى حياته مثلما شعر بها عندما وقف أمام القديس العظيم الأنبا إبرام».
قبيل نياحته استدعى القمص عبدالسيد «جد القمص غبريال أمين عبدالسيد الذى خدم فى نيوجرسى» وبعض الشمامسة، وطلب منهم أن يصلوا المزامير خارج باب غرفته وألا يفتحوا الباب قبل نصف ساعة.. ولما فتحوا الباب وجدوا الأب قد تنيح فى الرب. وتم دفنه بديره بالعزب، ولا يزال ديره بالفيوم إلى يومنا هذا، الذى به رفاته، سر بركة لكثيرين.
وفى حبرية البابا كيرلس السادس قررت الكنيسة إعلان قداسته فى المجمع المقدس سنة ١٩٦٣م، وتم الاحتفال به يوم ١٠ يونيو ١٩٦٤م، وللأمانة والتاريخ أنه كان وراء تلك المساعى الحميدة الأب المبارك القمص ميخائيل سعد «١٩٠٩- ١٩٩٦» كاهن الإسكندرية، الذى اهتم بإصدار كتاب عن الأنبا إبرام. وفى ٢ يونيو ١٩٨٧م تم نقل جسده إلى المزار الخاص به فى مقصورة بدير العذراء وأبوسيفين والأنبا إبرام بالعزب. أذكر أن مكتبة المحبة بالقاهرة عندما أصدرت تقويمها السنوى فى عام ١٩٦٤ وكان يحمل صورة الأنبا إبرام كان التوزيع مذهلًا وتقريبًا تم بيع جميع النسخ.