رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أعداء التجديد


مرّ على تاريخ المسلمين مجددون وفلاسفة ومفكرون، قدّموا لنا رؤى جديدة، وأفكارًا مختلفة، ولكنهم حُوربوا وقُتلوا، وتم اغتيالهم معنويًا، ولم تكن فى بلادنا أى مؤسسة تمتلك شجاعة الكنيسة لتعتذر لهم كما اعتذرت الكنيسة الكاثوليكية للعالم الكبير جاليليو وصنعت له تمثالًا وضعته فى إحدى قاعات «الفاتيكان».
وقد كان الفيلسوف المسلم ابن رشد الذى اشتهر بـ«ابن رشد الحفيد» يسبق جاليليو بنصف قرن من الزمان، وكان زمن ابن رشد غير زمننا، فأهل تلك الأزمنة القديمة كانوا موسوعيين، لذلك كان ابن رشد طبيبًا وفيزيائيًا وفلكيًا وفقيهًا وفيلسوفًا وقاضيًا، وكان له بالمختصر باع طويل فى كل علم من علوم زمنه، إلا أنه اشتُهر بـ«الفقيه الفيلسوف»، ورغم أنه بدأ حياته على المذهب الأشعرى، فإنه عندما استقام عوده، أخذ يوجه الانتقادات للأشاعرة ومذهبهم، ثم إنه تخرج فى الفقه على المذهب المالكى الذى كانت له سطوته فى بلاد الأندلس إلا أنه تحرر من المذهبية وانطلق فكريًا ليؤسس مذهب الفكر الحر، ثم قرأ ابن رشد لـ«أرسطو» ثم «أفلاطون»، وشغف بهما، فقام بترجمة معظم ما وصل إليه من فلسفة أرسطو ومن كتب أفلاطون، ثم انتهى إلى: أنك تستطيع أن تصل إلى الله عن طريقين، إما النصوص، وإما الفلسفة، فكلاهما عنده يكملان بعضهما، ولكن مشكلة الرافضين لابن رشد أنهم لم يفهموا منهجه القائم على أنه لا إمام للإنسان إلا العقل، وأن العقل مقدم على النص عند التعارض، واعتبروا أنه بذلك يرفع العقل على النص الدينى الذى أنزله الله على رسوله، ويرد ابن رشد على كتاب أبى حامد الغزالى «إحياء علوم الدين» بقوله: «كأنما علوم الدين قد ماتت وجاء الغزالى ليحييها» ثم يرفع ابن رشد من قدر الفلسفة فيقول: «إن ما قيل من مخالفة الفلسفة للشرع دعوى باطلة، فالفلسفة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة» لا تعارض إذن بين هذا وذاك، ولكن الناس أعداء الذى يجهلونه، وفقهاء عصر ابن رشد يمقتون الفلسفة ولا يعرفون ماهيتها، كما أنهم يضيقون ضيقًا شديدًا من إعمال العقل، ويبدو أن إعمال العقل عندهم كانت بضاعة الفلاسفة فقط أما هم فلا يعرفون ولا يمتلكون غير النقل مع تحييد العقل وإبعاده عن الاجتهاد فى النص، أو إنكار قدسيته إذا ما تعارض مع العقل، وكلما استعمل الإنسان عقله وارتقى به ارتقى فى مدارج الإنسانية.
والعقل عند ابن رشد ليس مجرد آلة للحفظ، ولكنه آلة قادرة على إدراك الموجودات بأسبابها، وأن معرفة المسببات بتمامها لا تكون إلا بمعرفة أسبابها، وهو الأمر الذى نعرفه فى المنطق بارتباط النتائج بمقدماتها، فلا شىء فى الكون يأتى بغتة دون أن يكون له مُسبب، فالنار لا تشتعل إلا إذا كان هناك مُشعل لها، سواء كان إنسانًا أو ظاهرة كونية، ولذلك حدث خلاف بين الصوفيين فى ذلك العصر وابن رشد، إذ إن المعرفة عندهم تُقذف قذفًا داخل النفس الإنسانية دون سبب أو علة، ومن هنا كانت النكاية بابن رشد، ويبدو أن أعداء ابن رشد حاولوا النكاية به أكثر من مرة، ففشلوا فى أول الأمر لأن الخليفة الأندلسى المنصور كان فى بداية عهده مُحبًا للفلسفة، وكان ابن رشد عنده مقربًا، فهو الذى قام بشرح فلسفة أرسطو، حتى إن ابن رشد عُرف بالشارح لعكوفه على شرح ما وصل إليه من فلسفة أرسطو، ولكن النفس البشرية تتقلب من حال إلى حال، فسرعان ما أصاب الملل المنصور من الفلسفة والفلاسفة واتجهت نفسه إلى الصوفيين والصوفية، وكان ما بين ابن رشد والصوفيين ما صنع الحداد، فإذا بأعداء ابن رشد ينشطون ويقدمون الوشايات للخليفة ضده، ويتهمونه بمعاداة الشريعة وتغليب العقل عليها، وكان ابن رشد حينها قد اقترب من السبعين، وتمكن الأعداء من قراءة بعض فقرات من مؤلفات ابن رشد فى مجلس الخليفة، وتمكنوا من إخراجها من سياقها وتأويلها ضد مقصدها، فغضب الخليفة عليه، وانعقدت المحاكمات له وجماعة من أصحابه، فكان أن أصدر القاضى حكمه ضدهم بالنفى بعد التعذير والتعنيف والتجريس.
وبدأ أعداء ابن رشد فى تأليب العامة عليه، ويا لهف قلبى عليك يا ابن رشد والناس كالخراف تسير أمام من يسوقها، حتى إن ابن رشد وولده دخلا مسجدًا فى قرطبة فثار الناس ضدهما وطردوهما من المسجد بعد أن كادوا يفتكوا بهما، والرجل يجرى وولده يمسك يده، فقد بلغ ابن رشد من الكبر عتيًا، والناس لا توقر كبيرًا تم اتهامه بالهرطقة والكفر، وصدق شوقى أمير الشعراء حينما قال عن العامة: يا له من ببغاء عقله فى أذنيه، وهؤلاء الببغاوات قاموا بحرق كتب ابن رشد وهم يكادون يطيرون فرحًا وكأنهم تخلصوا من شر مستطير، ولم يشفع لابن رشد أن الخليفة عفا عنه بعد ذلك، بل ظل صاحبنا مكروهًا متهمًا فى دينه حتى مات.
وتمر الأجيال ويكتب علماء المسلمين الكتب والتشنيعات على ابن رشد، ويتهمه ابن تيمية بالكفر تارة وبالزندقة تارة أخرى، وتنتقل فلسفة ابن رشد وترجماته لأرسطو وأفلاطون إلى أوروبا، وتلقى أفكاره رفضًا من رجال الدين، حتى إن أسقف باريس عام ١٢٧٧ ميلادية حظر أفكار ابن رشد بعد أن كان قد أدانها، وقام دانتى بوضع صورة ابن رشد فى الجحيم فى تحفته «الكوميديا الإلهية» ولكن هذا لم يجعل العقل الغربى مستهجنًا أفكار ابن رشد، بل أخذها وجعل منها «اليقظة الكبرى للعقل الغربى» وظلت فلسفة ابن رشد تقود العقل الغربى أربعمائة عام حتى سُميت تلك الفترة «الفترة الرشدية»، فى حين أخذ العقل العربى يتجرع أفكار ابن تيمية ويغلق أبواب العقل ومساراته.
فإذا تركنا ابن رشد وما أبدعه، ثم ما عاناه من أجل ما أبدعه وذهبنا إلى العصر الحديث الأكثر قربًا منا، سنجد أمامنا الشيخ على عبدالرازق أحد الكبار الذين سببوا صدمة تاريخية لشيوخ القرن العشرين، فطردوه من هيئتهم وسحبوا منه شهادته، وقد كان جُرم هذا الشيخ الجليل هو كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذى انتهى فيه إلى أن الخلافة ليست فريضة إسلامية ولا علاقة لها بالدين وإنما هى نظام حكم عربى وضعه الصحابة لأنفسهم.
ففى عام ١٩٢٥ خرج للوجود ذلك الكتاب الذى فَجّرَ مصر من الداخل، وأثار ضجة كبرى ليس فى مصر فحسب ولكن فى العالم الإسلامى كله حيث جاء فيه «إن الإسلام لم يضع لنا شكلًا للحكم، ولم تكن الخلافة فريضة ولكنها كانت تناسب عصرها فقط.. وليس المهم عندنا شكل الحكم ولكن المهم هو أن يحقق نظام الحكم الذى نتخيره مقاصد الشريعة» كانت الطامة الكبرى عند البعض أن الشيخ على عبدالرازق تطرق للخلافة، ونفى فرضيتها أو فريضتها، فقام الأزهر الشريف بسحب شهادة العالمية منه عقابًا له على رأيه.
ولكن ما ناله الشيخ على عبدالرازق فهو فضيحة بالمعنى الحرفى لأولئك الذين يعتبرون أفعال السلف دينًا، فقد جردوا الشيخ المسكين من شهاداته واغتالوه معنويًا بعد أن اتهموه فى دينه وخلقه، وظلت الاتهامات العقائدية تنهال فوق رأسه حتى بعد موته، حتى إن الدكتور الإخوانى محمد عمارة كتب كثيرًا ضد على عبدالرازق، وانهال ضده بكل ما يمكن تصوره من اتهامات، بل ما لا يمكن تصوره، وكان مما قاله فى حقه: «إن طه حسين هو الذى كتب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وأنه بعد أن وضع هذا الكتاب إذا به يضع اسم الشيخ على عبدالرازق الذى أصابته حالة خجل من طه حسين فلم ينف تأليفه الكتاب! ثم زعم على غير الحقيقة أن الشيخ على عبدالرازق اعتذر عن ذلك الذى أورده فى كتابه وقال: «إنما هى كلمات الشيطان ألقاها فى روعى» والمؤسف أن الشيخ على عبدالرازق لم يقل هذا أبدًا فى أى وقت من الأوقات.
ولعل الناس لم تفهم إلى الآن لماذا ناصب أعضاء جماعة الإخوان الشيخ على عبدالرازق العداء، حتى إنهم كتبوا ضده أكثر من مائة كتاب، وأكثر من ألف وخمسمائة مقال وبحث عبر تاريخهم، وكانوا يبثون فى نفوس شبابهم بغضًا وكراهية شديدة لهذا الرجل، وما ذلك إلا لأن فكرة على عبدالرازق عن مدنية الحكم وعدم فرضية الخلافة، لو شاعت لانتهت جماعة الإخوان من التاريخ، فالخلافة هى المصيدة التى تستقطب بها أعضاءً جددًا كل جيل، ودراسة تاريخ الفتوحات ونسبتها للدين، ونسبة أنظمة الحكم التى قامت بها للإسلام من شأنه أن يدغدغ مشاعر الشباب المحبط الذى يرى واقع أمتنا فى ذيل الأمم، فيتوق شوقًا لذلك الشكل القديم حتى يستعيد فى نفسه ثقته فى دينه، ومن رحم فكرة الخلافة وتسويق جماعة الإخوان لها تخرج جماعات دموية مثل القاعدة وداعش، ولذلك كان لا بد أن تعقد جماعة الإخوان محاكم التفتيش للشيخ على عبدالرازق وتتهمه فى دينه، وكانت توصيات الجماعة أن يحصل طلاب الشريعة على رسائلهم العليا فى موضوع الخلافة وإثبات أنها فريضة، واتهام على عبدالرازق فى دينه، حتى تسقط مصداقية كتابه.