رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف ترتقى إلى أعلى درجات الإيمان؟


الإحسان هو أعلى درجات الإيمان، ومعناه: إحساس عالٍ جدًا بالله فى كل جزئيات حياتك، «أن تعبد الله كأنك تراه»، أن تستشعر به فى كل أوقاتك، حتى فى نومك، لا تتخلى عن هذا الشعور الذى يسرى بداخلك، وهو أنك تعيش مع الله طوال الوقت، ولا يفارقك هذا الشعور أبدًا فى جميع أحوالك.
والإحسان درجتان: إحساس عالٍ، «أن تعبد الله كأنك تراه»، وإحساس أقل من ذلك «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وهو أن تشعر بأن ربنا حاضر معك فى كل حياتك وتصرفاتك.
وإذا سرى فيك الإحسان.. تحسنت أخلاقك وصفاتك وقدراتك ونجاحك.. لأنك ترى الله فى كل حياتك.. مع الله تعبده وتصلى كأنك تراه.. مع الناس حسن الخلق.. فى الحياة إحسان العمل، يعنى إتقان وإبداع.. فيكون الإحسان ثلاثى الأبعاد.. مع الله، مع الناس، مع الحياة.
وفى الحديث الذى رواه عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ووصفه الإمام الشافعى بأنه «ربع الدين»، يقول: بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد، أخبرنى عن الإسلام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا». قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرنى عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت. قال: فأخبرنى عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك». قال: فأخبرنى عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل». قال: فأخبرنى عن أمارتها؟. قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان». ثم انطلق، فلبثت مليًا، ثم قال لى: «يا عمر، أتدرى من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم». رواه مسلم.
والعيش مع أسماء الله الحسنى يحرك الخيال الروحى لتصل لإحساس «كأنك تراه»، لأن العقل البشرى يعجز أن يدرك ذات الله، فإدراك الذات الإلهية أمر يستعصى على البشر، ولكن الله برحمته ولطفه ومحبته لعباده عرف نفسه لعباده بما يسهل عليهم إدراك صفاته سبحانه من خلال أسمائه الحسنى، ثم أفاض سبحانه برحمته وكرمه ووده بأن جعل أسماءه الحسنى تتجلى فى كل الكون، فكان الكون مرآة لآثار تجليات أسمائه الحسنى «كأنك تراه».
وأتذكر ما قاله لى صديق شاب يومًا: «كنت فى الثانوى، وكان أبى مشغولًا فى أعماله بشكل دائم أفقده الإحساس بى كابن له فى مرحلة المراهقة أحتاج فيها لأب حنون صديق أشعر بقربه منى. حاولت كل المحاولات لأتودد إليه فلم أفلح، حتى كان يوم لمباراة كرة قدم لفريق المدرسة على نهائى دورى المدارس، وكنت أنا حارس المرمى، وتوسلت يومها لأبى ليحضر المباراة ليشاهدنى وأنا ألعب، فوافق أمام إلحاحى، وحضر بالفعل، لكنه كان مشغولًا بهاتفه ولم يبد أى اهتمام بوجودى، ثم جاءه اتصال وسط المباراه فتركنى وغادر مسرعًا، يقول لى: أنا أكملت المباراة، لكن دموعى كانت تنهمر بشدة. يقول لى صديقى: بعد شهر توفى أبى، ووقفت على قبره فوجدت نفسى أقول له: أنا لم أعرفك! كنت أتمنى أن أعرفك، ماذا كان فى الدنيا أهم من أن أعرفك».
هذه القصة المؤثرة تبسط معنى الإحساس بصفات الخالق، وتذكر نفسك عندما تقف بين يدى الله يوم القيامة، فتقول له: «أنا لم أعرفك يا رب، لم أعرف صفاتك، فيقال لك: وماذا كان فى الدنيا أهم من أن تعرف خالقك؟ لقد عرَّفك عليه بأسمائه الحسنى، كيف غادرت الدنيا ولم تعرف أرحم الراحمين، أكرم الأكرمين، الودود، الحكيم، الحليم، العليم، القريب، المجيب، الحى، القيوم».
كل صغيرة وكبيرة فى الكون تذكّرك بأسماء الله الحسنى، لا توجد ذرة واحدة فى الكون إلا وهى تحمل ختم أحد أسماء الله الحسنى. يقول الله: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (البقرة:١١٥)، كل ما هو موجود فى الكون علامة إلهية أو إشارة على الحضور الإلهى، إشارة تربطك بأسماء الله المتعلقة بكل صورة للكون تراها فى يومك وليلتك.
أسماء الله الحسنى تملأ الحياة، لتشعرك بحضور الله معك.. «كأنك تراه».. فمن أسمائه الحَنَّان المَنَّان يظهر أهل الحنان وأهل الفضل. ومن أسمائه الرءوف الودود الحليم الرحيم يظهر أهل الكرم وأهل المودة وأهل الرحمة، ومن أسمائه الشافى ترى عجائب شفاء الله لعباده «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (الشعراء:٨٠).. ومن أسمائه الجبار يجبر عباده المكسورين فى الحياة.
فى صوت الرعد يتجلى اسم الله المهيمن، فى نسمات الليل يتجلى اسم الله اللطيف، فى تقلب أحوال البشر يظهر اسمه المُعِزّ المُذِلّ، كل جمال فى الكون من سِر: «إنّ الله جميل يحب الجمال» كل رحمة فى الكون من سر: «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىء».
وأسماء الله الحسنى تسكن كل تفاصيل الحياة بطولها وعرضها، وحتى يصل الإنسان إلى مرتبة الإحسان عليه الإحساس بها، ولن يصل الإنسان إلى تلك المرتبة الإيمانية الرفيعة إلا من خلال الذكر، فهو الذى سيقودك إلى ذلك.. كلما ذكرت بعمق.. ستفتح أمامك أسرار وأنوار وأبواب وقنوات إلى عالم الروح.. أنوار وأفراح وطمأنينة ورضا وسعادة.. شىء يقذفه الله فى قلبك.
الذكر هو قناة مفتوحة بينك وبين السماء.. تذكر الله فتفتح القناة فيذكرك الله فورًا: «فاذكرونى اذكركم»، ويقول الله تعالى فى الحديث القدسى: «أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم، وإن تقرب إلىّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتانى يمشى أتيته هرولة». رواه البخارى ومسلم.
والنبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكره كمثل الحى والميت». وجاء رجل إلى رسول الله يقول له: إن شرائع الإسلام قد كثرت علىّ، فأخبرنى بشىء أتشبث به؛ فقال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى» رواه الترمذى. عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل، رضى الله عنه، قال لهم: إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن قلت: أى الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله» صحيح ابن حبان.
وحتى يتحقق الهدف والمقصد من الذكر، فلا بد أن يكون مصحوبًا بالفكر.. والفكر هو التفكر والتأمل.. عندما يكون هناك ذكر وفكر يصبح اللسان ذاكرًا والعقل متأملًا والقلب يتأثر وينفعل.. ويرتقى الإنسان إلى مرتبة الإحسان.