رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شوقى السيد: عشقى القانون جعلنى أذهب إلى المحاكم لمشاهدة المرافعات منذ الثانوية

الدكتور شوقى السيد
الدكتور شوقى السيد

فى صيف عام ١٩٧٩ يرتدى القاضى الشاب بذلته الأنيقة، ويُحكم رباط العنق جيدًا مثلما جرت العادة.
فى تلك اللحظات يبدو على وجهه بعض القلق، قلق مشوب بأمل، مُحاط بخوف مُحاصر بترقب. فخلال بضع ساعات ستبدأ حياة هذا الرجل فى أخذ اتجاه آخر مختلف تمامًا عن ذى قبل، فى مغامرة أشبه بـ«مقامرة» غير مأمونة العواقب أو مضمونة النتائج.
الآن يضع قدميه داخل مبنى مجلس الدولة. يصعد إلى مكتبه يُلملم أوراقه ويستعد للرحيل النهائى، لكن ثمة ممانعة بداخله تدفعه بقوة للتراجع عن قراره.. عيناه تجوبان أرجاء المجلس يمينًا ويسارًا.. يبحث عن رفيق.. صديق.. زميل.. أو هادٍ يهديه الطريق يستشيره فى أمره، لكن آماله صارت سرابًا.
ووسط تلك الأجواء القلقة والمضطربة تسلل إلى نفسه شعور دافئ حسه اطمئنانًا فى قلبه وراحة فى عقله، ليقرر حسم أمره بالانتقال من سلك القضاء إلى ملعب السياسة وساحة المحاماة، ليصبح لاحقًا واحدًا من أهم العلامات القانونية وأيضًا السياسية، فى رحلة يقول عنها إنها كانت مليئة بالأشواك والنجاحات المبهرة.
الدكتور شوقى السيد، الفقيه القانونى وأستاذ القانون الدستورى، الذى يرصد ويسترجع فى الحوار التالى مع «الدستور» تفاصيل وذكريات تلك المرحلة الطويلة.. فماذا قال؟



نشأت فى «السنبلاوين» بالدقهلية لأب تلقى تعليمًا أزهريًا لكنه كان من أصحاب العقليات المتفتحة
تربى الدكتور شوقى السيد على قاعدة أرساها والده فى داخله منذ صغره تقول: «أى إنسان كى تصبح له قيمة فى الحياة وداخل مجتمعه، يجب أن يحدد أهدافه التى يسعى لتحقيقها، ولأجل أن تتحقق تلك الأهداف، لا بد أن يضع الشخص أمامه مُثلًا عليا يسير عليها، وليس هناك بالطبع أهم من أن يكون صاحب مبدأ فى أقواله وأفعاله».
من تلك الكلمات بدأت حياة «السيد» داخل منزل يقع فى مدينة «السنبلاوين» بمحافظة الدقهلية، لأسرة عائلها أب تلقى تعليمًا أزهريًا وأصبح من رجالات التعليم، وكان من أصحاب العقليات المتفتحة قولًا وعملًا بفضل عوامل شتى، على رأسها البيئة المحيطة.
وقال الفقيه القانونى والدستورى عن ذلك: «المنطقة التى كُنا نقيم فيها كانت تشهد تجمعًا كبيرًا للإخوة الأقباط وتضم بعض الكنائس، ورغم تنوع عقائد سكانها، كانت بيئة مثالية تؤمن بالتنوع وقبول الآخر، وكان هناك حوار راقٍ وممتع قائم بين أبنائها دون أن يشهد ولو لمرة خروجًا على النص».
وأضاف: «وسط تلك الأجواء تعلمت فكرة التعايش مع الآخرين واحترامهم، وفهمت معنى فقه الاختلاف وليس الخلاف. ولا أدعى قولًا أو أنسب فضلًا بأن تلك عادة ميزت أسرتى وما يجاورها من أسر، بل كل أو تقريبًا معظم الأسر المصرية كانت تتميز آنذاك بتلك الصفات والطباع، فعلى الرغم من أن عدد الأفراد كان كبيرًا، فإن الآباء والأمهات كانوا يحسنون تربية أولادهم، ونادرًا ما كان يشذ أحد الأبناء عن ذلك».
وحين أتى وقت حمل حقائبه من «السنبلاوين» إلى قاهرة المعز، من أجل الالتحاق بكلية الحقوق، لم يشعر «السيد» كابن من أبناء الريف بغربة أو اختلاف جذرى كبير فى العادات والمعاملات بين المدينة والقرية. فأجواء التسامح والمحبة والتنوع كانت هى السائدة فى مصر وقتها خلال خمسينيات القرن الماضى.
وأرجع تفضيله «الحقوق» إلى اكتشافه منذ المرحلة الثانوية أن ملكاته وقدراته تميل بشدة نحو حب القانون، وعندها بدأ فى الذهاب إلى المحاكم لمشاهدة المرافعات، ومراقبة المحامين والقضاة فى أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم.
وواصل: «تحول شغفى بالقانون إلى فلسفة ومنطق وتفكير، وبدأت فى صياغة تعريف جديد له، ألا وهو: (القدرة على منطقة الأشياء)، فالقانون له رائحة تخلل خلايا الرأس»، وفق تعبيره.
وحين بدأ الدراسة بين جدران كلية الحقوق، كان همه الأول بل والأوحد هو النجاح فى دراسته، ولذلك بدأ فى «تدقيق» الصحبة، وكانت أخلاقه التى تربى عليها خير عاصم له من سحر القاهرة الفاتن، ليرزقه الله فى النهاية التفوق، ويتم تعيينه فى السلك القضائى وتحديدًا النيابة، وبعد أن حصل على الماجستير انتقل للعمل فى مجلس الدولة.
وخلال فترة عمله فى مجلس الدولة، نجح فى الحصول على منحة سفر إلى فرنسا، حيث اكتشف عالمًا آخر مختلف التفاصيل والعادات والتقاليد، ثم عاد إلى القاهرة واستأنف عمله فى مجلس الدولة، حيث رُقى من منصب إلى آخر وصولًا إلى «مستشار»، المعادل لـ«رئيس محكمة».

حققت معادلة «النجاح بشرف» فى المحاماة واجتهدت لصناعة اسم يحترمه الجميع
نقلة دراماتيكية عاشها الدكتور شوقى السيد فى بدايات حياته. فبحكم الميلاد فى أربعينيات القرن الماضى، كانت كلية الحقوق هى جوهرة تاج التعليم فى مصر، فمن بين جدرانها تخرج عمالقة مصر فى الأدب والثقافة والشعر والصحافة.
لكنها حين أتى عليه الدور لدخولها، كانت قد فقدت الكثير من هيبتها، لدرجة أن البعض عارضه حتى لا يلتحق للعمل بها.. فمن أين أتى بتلك الدرجة من اليقين بأن مستقبله الناجح مرهون بدراسة القانون؟
أجاب الفقيه الدستورى الكبير: «هذا القرار من أكثر القرارات التى أفخر وأعتز بها فى حياتى، فقد كنت مؤمنًا بأن الإخلاص سيؤدى حتمًا إلى النجاح، وبالفعل لم تخذل كلية الحقوق توقعاتى وأعطتنى عطاءً بلا حساب، لأننى أحببتها وأخلصت لها، وتلك عقيدة يجب أن يعتنقها شباب المحامين الباحثين عن النجاح».
وأضاف: «حين بدأت ارتداء روب المحاماة، اخترت أن أمارس تلك المهنة بنزاهة وعقيدة وشرف، وهو ما أجعلنى أشعر وكأننى أسير على الأشواك من درجة الصعوبات التى قابلتها، لكن بمقدار هذه الصعوبات بقدر ما كان نجاحى مبهرًا بصورة كبيرة».
وأوضح أن هذا تجسد فى أشياء كثيرة، أهمها بالنسبة له نجاحه فى ترجمة معظم القضايا والوقائع التى عاشها إلى مؤلفات علمية تطرح الفكرة وتناقشها وتفسر أسبابها وتقدم علاجها، مثل كتبه «انحراف استعمال السلطة» و«تعسف استعمال الحق» و«استقلال القضاء» وغيرها.
وأضاف: «أعتقد أننى ممن نجحوا فى تحقيق المعادلة الصعبة فى مهنة المحاماة وهى النجاح بشرف، واجتهدت جدًا لصناعة اسم يحترمه ويقدره الجميع، ودائمًا أردد بأن النجاح لا يأتى صدفة إنما بكد وتعب وإخلاص، لأن ما يأتى صدفة يذهب هباءً بنفس الطريقة التى أتى بها، فالسماء لا تمطر ذهبًا، ولذلك عندما توكل إلىّ أى قضية دائمًا ما يكون التوفيق حليفى».
وواصل: «خلال ما يقارب أو يزيد على ٤٠ عامًا قضيتها فى محراب العدالة كمحامٍ، أعتز بالعديد من القضايا التى ترافعت فيها على كثرتها، لكنى منذ اللحظة الأولى اعتبرت أن قضيتى الأساسية هى تحقيق المشروعية الدستورية، وترسيخ الحقوق والحريات والوقوف ضد أى طغيان، وهذا المبدأ الذى اعتنقته لم يقتصر فقط على أخذ موقف وإثبات حالة، لكنه دائمًا كان مصحوبًا بمقاومة وإصرار على النجاح فى تحقيق نصر».
وبَيّن أن هذه المقاومة كانت السبب الرئيسى فى قبوله الدفاع عن الفريق أحمد شفيق فى قضية تزوير الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٢، معقبًا: «لم يكن ذلك قربانًا وحبًا فى شفيق قدر ما هو كره لفكرة التزوير وغطرسة الإرهاب، فقد تجمعت فى يدى أدلة تثبت وجود تجاوزات تمت فى المطابع الأميرية، استغلتها الجماعة لحسم النتيجة لصالحها».
وقال إنه يعتز بامتلاء مسيرته بالعديد من العلامات المضيئة، بعيدًا عن أوجاع السياسة والغوص فى أعماق المحاماة، وعلى رأسها الفترة التى عمل فيها مستشارًا لوزير الثقافة يوسف السباعى.
وأرجع ذلك إلى أن هذه الفترة قربته من «عباقرة»، أمثال الفنان الكبير السيد راضى، والمسرحى العظيم سعدالدين وهبة، مبينًا أن الأخير «أثر علّى كثيرًا بحكم شخصيته القوية ومواهبه المتعددة، ومثلما كان صاحب قلم بارعًا، كان إداريًا بارزًا، وإنسانًا صاحب حضور طاغٍ وقرار قوى».
وأضاف: «أما الفنان السيد بدير، فقد كان بيننا حوار دائم متبادل، وطلب منى استعمال خبراتى القانونية لأجل صياغة لائحة خاصة بالفنانين تتيح لجميع أبناء المهنة تقديم أعمال مسرحية بصورة سنوية بدلًا من احتكار بعض الفنانين تقديم جميع المسرحيات».
وواصل: «احتكاكى بهذا الرجل جعلنى أكتشف وجهًا مغايرًا تمامًا لتلك الشخصية التى اعتادت الظهور فى الأعمال الفنية بصورة الشخص الساذج الأبله الذى يردد دائمًا مقولة (كبير الرحيمية قبلى)، فقد اكتشفت أنه صاحب مواهب فذة ومتعددة، فهو مؤلف ومخرج وكاتب وبجانب هذا إدارى بارع، وقد حضرت له أكثر من اجتماع وجدته صاحب منطق وحكمة فى الإدارة».
وتابع: «بشكل عام فقد نجحت فى أن أقطف من كل بستان المثقفين زهرة بحكم معاملاتى معهم انعكس أثرها على حياتى السياسية والقانونية، والأمر ذاته مع السياسيين وغيرهم، فقط أحلم بأن أستمر فى أداء رسالتى تجاه ربى ونحو وطنى، وأن أستمر فى رد الجميل لكل الشخصيات التى أثرت مسيرتى وساعدتنى كما يجب أن يكون».


«الحزب الوطنى» أسقطنى فى انتخابات 95.. ورفضت الانضمام إليه رغم وعد «هتنجح وأنت حاطط رجل على رجل»

بعد الوصول إلى منصب «المستشار»، قرر الدكتور شوقى السيد أن يقول للعمل القضائى: «هذا فراق بينى وبينك»، بعدما سيطرت عليه فكرة الانخراط فى العمل العام، والاشتباك مع الوضع السياسى، وهو ما أخذ تفكيرًا كبيرًا منه لحسمه، حتى «اكتشفت أننى أملك إمكانيات وقدرات تؤهلنى لأداء تلك المهمة الجديدة بنجاح».
وبالفعل فى ١٩٧٩ خاض «السيد» انتخابات مجلس الشعب عن دائرة «الأزبكية والظاهر»، وتقدم بأوراقه حينها فى آخر أيام الترشح، وكان شعوره حينها يغلب عليه «الخوف مما هو قادم».
وأوضح: «فى تلك الدورة كان منافسى هو الدكتور حسن كامل، رئيس ديوان الجمهورية الأسبق خلال عهد الرئيس السادات، الذى تمكن من حسم المنافسة لصالحه بفعل بعض التدخلات السياسية، كما أنها كانت أولى تجاربى فى العمل العام، ولم أكن أملك تجارب أو خبرات سابقة».
لكن فى الانتخابات التالية تغيرت الأمور كثيرًا، واستطاع «السيد» حسم المعركة لصالحه «مستقلًا» دون أى انتماء حزبى، بعد أن رفض الانضمام إلى أى حزب سياسى، بما فيها «الحزب الوطنى»، رغم العروض الكبيرة والمغرية التى تلقاها منه.
وأضاف: «بقيت نائبًا فى المجلس حتى عام ١٩٩٥، حين خاض الانتخابات أمامى الدكتور عبدالأحد جمال الدين، رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة أمين الحزب الوطنى، وهو ما كان سببًا فى أن يتم إسقاطى بفعل فاعل».
وبسؤاله عن السبب الذى جعله يختار منطقة الأزبكية والظاهر بما تملكه من خصوصية تاريخية لتكون محطة انطلاقه السياسى.. أجاب:
«وقت عملى كقاضٍ فى مجلس الدولة، تم انتدابى للعمل- كما قلت- كمستشار قانونى لوزير الثقافة المصرية الأسبق، يوسف السباعى، وحينها جمعتنى صداقة خاصة بعدد من المبدعين المصريين الكبار، وحين صارحتهم برغبتى فى خوض الانتخابات اقترحوا الظاهر والأزبكية.
وعلى الرغم من النجاحات التى حققتها على صعيد الأداء البرلمانى والسياسى، تلقيت طعنة بإسقاطى عمدًا خلال انتخابات مجلس الشعب مثلما ذكرت سابقًا.
وحاول بعض رجالات الحزب الوطنى معى مجددًا، وعرضوا الانضمام إليهم بإغرائى بمنطق (هتنجح وأنت حاطط رجل على رجل)، لكن تلك الإغراءات لم تُسل لعابى ورفضتها جملة وتفصيلًا.
لكن المفاجأة جاءت بتزكيتى ضمن الفئة التى يعينها رئيس الجمهورية، وترددت فى القبول، وأخذ الموضوع منى حينها تفكيرًا عميقًا، وكان اتجاهى عدم القبول.
ولولا تدخل أحد الأصدقاء ناصحًا إياى بالقبول قائلًا لى: (وافق لأنها تجربة جديدة والحكم فى النهاية على شخصك سيكون مرتبطًا بدرجة أدائك جيدة أم كانت غير ذلك)، فوافقت لكن علقت ذلك على شرط وهو أن أبقى (مستقلًا).
هذا الشرط أو المبدأ دفعت ثمنًا كبيرًا له، فلم أتول أى مناصب كبرى داخل المجلس، مثل رئاسة اللجان وغيرها، رغم الوعود التى تلقيتها، فقد تعرضت لنوع من الحرمان السياسى المقصود، لكن رغم ذلك اعتبرته تكريمًا لمواقفى وانتصارًا لمبادئى وليس عقابًا، لأننى طيلة حياتى لم أقبل مطلقًا بدور التابع، ولو عاد بى الزمن مرة أخرى مؤكد أننى سأكرر ما فعلته، وإلى الآن لم أشعر بالندم على تلك المواقف التى اتخذتها».