رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكومة الكاظمى ورياح التغيير فى السياسة العراقية



مجلس النواب العراقى منح حكومة مصطفى الكاظمى الثقة، وانتهت حالة الجمود التى دامت خمسة أشهر، منذ استقالة حكومة عادل عبدالمهدى مطلع ديسمبر ٢٠١٩، عجز خلالها كل من محمد توفيق علاوى وعدنان الزرفى عن الحصول على تأييد الكتل الأساسية فى البرلمان.. الكاظمى شخصية شيعية معتدلة غير حزبية، تولى رئاسة تحرير مجلة «الأسبوعية»، التى كان يملك امتيازها برهم صالح رئيس العراق الحالى، وذلك قبل أن يتولى رئاسة المخابرات العامة يونيو ٢٠١٦، ما سمح له بالإلمام بتفاصيل كل الملفات المتعلقة بالأمن القومى.. إبان ترؤسه للجهاز تمكن من إنهاء سيطرة الأحزاب السياسية عليه.. شقيقه «صباح عبداللطيف» كان مستشارًا لرئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادى.. تربطه علاقات وثيقة بجميع الأطياف والتيارات السياسية، لما هو معروف عنه من رفض للتمييز الطائفى أو المذهبى.. الكاظمى رئيس حكومة استثنائى من طراز خاص لم تعرفه العراق منذ ٢٠٠٣.
حكومة الكاظمى تسعى لحسم قضايا بالغة الأهمية، إجراء انتخابات مبكرة، وضع أسس نظام صحى حديث لمواجهة مخاطر تفشى وباء «كورونا»، حصر السلاح بيد الدولة، تشريع قانون استثنائى للموازنة العامة، محاربة الفساد، وإعادة النازحين إلى ديارهم.. لكنها لم تحدد سقفًا زمنيًا للتنفيذ، نظرًا لتعقد الظروف الاقتصادية نتيجة انخفاض أسعار النفط، واحتمال تجدد الاحتجاجات الداخلية.. معيار نجاح الكاظمى من عدمه يرتبط بقدرته على تجاوز نظام المحاصصة الطائفية، الذى يحكم العملية السياسية منذ ٢٠٠٣، ودمج ميليشيات «الحشد الشعبى» داخل الجيش.. فرص نجاحه تتوقف على متغيرين، الأول يتعلق بإيجابية موقف المؤسسة الدينية فى النجف الأشرف، وخروج الفصائل الموالية للمرجع الشيعى الأعلى آية الله السيستانى من «الحشد» نتيجة السأم من تجاوزات الميليشيات الموالية لإيران، ما قد يسمح بإقناعه بممارسة نفوذه لإخضاعها لسلطة الدولة.. المتغير الثانى: تخلى أمريكا عن موقفها التقليدى من نظام المحاصصة فى العراق، ودعوة بومبيو وزير الخارجية القادة العراقيين للتخلى عنه.
أحد المقربين من الكاظمى وصفه بالشخصية التى لا تعادى أحدًا، صاحب عقلية براجماتية.. صحيفة «وول ستريت جورنال» أكدت أن صعوبة مهمته تكمن فى الموازنة بين القوتين المتخاصمتين، الولايات المتحدة وإيران.. ما يفرض عليه تجنب تحويل العراق إلى ساحة مواجهة بينهما، مستغلًا توافقهما على دعمه، لمنع مزيد من الفوضى فى البلاد.. ممارسته للسلطة خلال الفترة القصيرة الماضية تبشر بالخير، فقد أعاد تنصيب عبدالوهاب الساعدى رئيسًا لجهاز مكافحة الإرهاب، بعد إقالته تلبية لضغوط إيرانية سبتمبر الماضى.. أمر بمداهمة مقر حركة «ثأر الله» التابعة لإيران، بعد أن قتلت متظاهرًا فى مدينة البصرة، فى خطوة كشفت عن نيته تحدى نفوذ الميليشيات المرتبطة بإيران.. لكنه قام بعد أيام بزيارة مقر قيادة «الحشد» المدعومة من إيران، وأشاد بدورها فى الحرب ضد «داعش».. هذا التوازن السياسى يوفر فرص النجاح لتمرير مخططات الكاظمى، فى إعادة الاستقرار والقضاء على الفوضى بالعراق.
غياب قاسم سليمانى بنفوذه الكبير، وعدم قدرة إسماعيل قاآنى على ملء الفراغ الذى نشأ بغيابه، وفَّرا الظروف المناسبة للعراق للتحرك بقدر من الحرية، والاتجاه نحو محيطه العربى.. فى لقائه مع الرئيس برهم صالح فى بغداد مارس الماضى، أكد على شمخانى أمين مجلس الأمن القومى الإيرانى نية إيران الحد من تدخلاتها فى العراق، لتوفير مبررات رحيل التواجد العسكرى الأمريكى، ولعل ذلك ما شجع صالح على رفض كل المرشحين المفضلين للأحزاب المتحالفة مع إيران لتولى رئاسة الحكومة، كما سمح ذلك لممثلى الكتل النيابية المختلفة فى البرلمان بتأييد حكومة الكاظمى.. والحقيقة أن إيران اضطرت لهذا الموقف، فالمظاهرات التى شهدتها المحافظات الجنوبية اتسمت بالوعى بحقيقة المشكلة، ووجهت اتهاماتها مباشرة لإيران لسيطرتها على العراق واستنزاف خيراته، بعد أن أرهقتها العقوبات الأمريكية.. ممارسة الميليشيات التابعة لإيران عمليات القمع والقتل بالرصاص الحى لم تمنع المتظاهرين فى نهاية الأمر من الإطاحة بحكومة عبدالمهدى.. لكن ذلك لم يمنع بعض الأطراف الشيعية من وصف الكاظمى بأنه «رجل الولايات المتحدة» فى العراق.. و«حزب الله» العراقى وصف تشكيل الحكومة بأنه «إعلان حرب»، واتهم الكاظمى بالتورط فى اغتيال قاسم سليمانى وأبومهدى المهندس، الذى نفذته واشنطن فى بغداد.
والحقيقة أن خروج العراق عن السيطرة الإيرانية يعتبر خسارة فادحة، بعد أن تبوأ المركز الثانى بعد الصين عام ٢٠١٨، ووفر لإيران ٨.٩ مليار دولار تمثل ٢٠٪ من إجمالى صادرات إيران غير النفطية.. بخلاف سيطرة ميليشيات شيعية موالية لطهران على حقول صغيرة بالمناطق السنية «علاس، الجيارة، نجمة»، واستفادتها من شركات النقل والإمداد والشحن التى تسيطر عليها الميليشيات فى البصرة، لتهريب النفط المسروق من هذه الحقول.. الميليشيات الموالية لإيران ثبتت وجودها فى الموانئ ومناطق التجارة الحرة بالعراق، لتتمكن من تهريب النفط الإيرانى الخاضع للعقوبات الأمريكية عبر المنافذ الحدودية، ثم إعادة تصديره كنفط عراقى لحساب إيران، ناهيك عن تصدير النفط الخام العراقى والمنتجات النفطية المسروقة من الإنتاج المحلى.
الولايات المتحدة، الطرف الآخر فى التوازن داخل العراق، تبدأ الحوار الاستراتيجى مع بغداد هذا الشهر، حول كيفية تنظيم الوجود العسكرى الأمريكى، وإعادة تقييم الاتفاقية الأمنية الموقعة بين البلدين منذ ٢٠٠٨.. الكرد والسنة يطالبان ببقاء القواعد باعتبارها ضمانة للتوازن مع إيران، لكن الفصائل المسلحة ومعظم القوى الشيعية ترفض بقاءها.. والواقع أن مصلحة العراق فى الإبقاء على دور واشنطن الاستشارى والتنسيقى والتدريب وتبادل المعلومات وصيانة المعدات.. خطة إعادة التموضع الاستراتيجى بقاعدتى «عين الأسد» و«حرير» تكفل تحقيق ذلك حال الاتفاق، أما فى حالة طلب الحكومة العراقية ما هو أبعد من ذلك، فالاستجابة الأمريكية ستكون من خلال التحالف الدولى وحلف شمال الأطلسى «ناتو».. العميد يحيى رسول المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة حاول تعزيز موقف بلاده إبان المفاوضات، بتأكيد أن بلاده ليست بحاجة لأى جندى أجنبى لمواجهة الإرهاب.. الكاظمى عمل بشكل وثيق مع المسئولين الأمريكيين كرئيس للمخابرات خلال الحرب ضد «داعش»، مما قد يوفر له فرص النجاح فى تحويل الحوار من سياسى أمنى إلى حوار اقتصادى استثمارى، ووضع قواعد متوازنة وراسخة للتعاون، وتقليص النفوذ الإيرانى على القرار السياسى والاقتصادى العراقى، إيران تدرك ذلك، ولذلك تركز حاليًا على المصالح والأسواق والتجارة، دون المساس بالعلاقات الخاصة مع التنظيمات الموالية لها بالعراق.
استكمالًا لاستعادة التوازن للسياسة الخارجية العراقية دفع الكاظمى على علاوى نائب رئيس الحكومة وزير المالية والمشرف على وزارة النفط، فى زيارة ذات طابع سياسى للسعودية والكويت.. قبل سفره كشف عن رغبة العراق فى الحصول على دعم مالى، لكنه عقب الزيارة نفى ما تردد عن اقتراض ٣ مليارات دولار، وأكد الاتفاق المبدئى، مع السعودية والكويت على دعم العراق.. السعودية وعدت بتفعيل الربط الكهربائى بين الدولتين وتزويد العراق بالكهرباء، وضخ استثمارات جديدة فى حقل عكاز الغازى غرب الأنبار، وقطاعى الزراعة والصناعة، وتم الاتفاق على السعى لإعادة أسعار النفط إلى مستوى مقبول للبلدين.. الوزير طلب تحمل السعودية والكويت تخفيض النسبة المقررة من حصة العراق فى «أوبك»، حتى يحافظ على مستوى تصديره النفطى، ويتجنب تفاقم الأزمة الاقتصادية، كما طلب من الكويت تأجيل سداد ٣.٧ مليار دولار، باقى تعويضات حرب الخليج المستحقة عليه، والتى حددتها الأمم المتحدة بـ٥٢.٤ مليار دولار، دفع العراق منها ٤٨.٧ مليار دولار.. السعودية ترتب لإعادة السفير لبغداد، وفتح ملحقية تجارية لفتح السوق العراقية لمنتجاتها، وضخ استثمارات لتمويل مشروعات توليد ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية «المتجددة والتقليدية» حتى يتوقف العراق عن استيرادها من إيران.. موازنة العراق ٢٠٢٠ تبلغ ١٦٥ تريليون دينار، تعانى من عجز قرابة ٥٠ مليار دولار، نتيجة هبوط عائدات النفط الذى يمثل ٩٥٪ من الإيرادات، هبوط أسعار النفط إلى ٢٠ دولارًا للبرميل يهبط بالإيرادات بمعدل ٢.٥ مليار دولار شهريًا.. التعاون الدولى، خاصة مع أمريكا ودول الخليج هو الأمل الوحيد لتخطى الأزمة، ما يعنى تغييرًا فى السياسة الخارجية، يحد من الاعتماد على إيران، بعد أن أصبح العراق لا يحتمل المزيد من استلاب ثرواته.