رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة درامية عبر الزمن


شهد الموسم الدرامى لرمضان هذا العام الكثير من الأعمال الفنية، جعلته الاكثر تميزًا وتفردًا بين مواسم الدراما الرمضانية التي سبقته، ويكفيه أنه الموسم الذي عاصر وباء كورونا الذي تسبب فى حالة ارتباك غير مسبوقة، جعلت من الجلوس فى البيت أكثر الطرق أمانًا لحماية الناس أنفسهم من الإصابة به، إلا أن آلافًا من الفنانين والفنيين نزلوا من بيوتهم لاستكمال تصوير الأعمال، حتى يقدموا للناس فى هذه الظروف الصعبة، وجبة درامية متكاملة ومتنوعة.

وما بين عمل تدور أحداثه بعد مائة عام، وهو مسلسل الخيال العلمى «النهاية»، التي تدور أحداثه تحديدًا عام 1120، وأحدث جدلاً كبيرًا، خاصة أنه يتحدث عن فناء إسرائيل وتحرير القدس، وعمل ثانٍ تدور أحداثه قبل أكثر من مائة وسبعين عامًا، حدوتة تمزج بين الأكشن والرومانسية والإنسانيات، والعلاقة بين أهل الحارة في الجمالية كواحدة من عالم الأحياء الشعبية، حيث تنظم هذه الأحياء وتدير شئونها فئة من الأشخاص الأقوياء، كان يطلق عليهم (الفتوة)، يلعب مسلسل «ليالينا 80» على «النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضى، والذى تدور أحداثه فى بداية الثمانينيات، ويقدم لنا شكل شوارع القاهرة فى هذا الوقت وأنماط الأزياء التي يرتديها الناس، ونوع السيارات التى كانوا يركبونها والأغانى التى يسمعونها، وهكذا.. ثم يشهد الموسم عودة مسلسلات الملاحم الوطنية من خلال مسلسل «الاختيار» الذى يحكى قصة البطل الشهيد أحمد صابر المنسى، قائد الكتيبة 103 صاعقة، الذى أُستشهد فى كمين مربع البرث، أثناء محاولته التصدى لهجوم مسلح فى سيناء، ويستعرض العمل بطولات شهداء مصر الأبطال الذين قدموا حياتهم فداءً لمصر، والعمليات الناجحة التى قادها الجيش للقضاء على الإرهاب، ويسلط الضوء على الجماعات الإرهابية التى تسفك الدماء وترتكب الجرائم لتحقيق أهدافها الدنيئة.

ومن بين العديد من المسلسلات الاجتماعية التي شهدت الكثير من الكراهية وإراقة الدماء، وتلك التي اعتمدت الكوميديا لإضفاء البهجة على المشاهد، تستوقفني أربعة مسلسلات، أعاد أولها إحياء الماضي في صورة جمالية، واستشرف الثاني المستقبل، بينما فجر فينا الثالث الحنين إلى أيامنا الفائتة، وجاء الرابع ليقف بنا على أرض الحاضر الذي نعيشه بكل تحدياته.. وتلك تنويعة زمنية رائعة، قدمت للمشاهد زادًا دراميًا، وروت عطشًا طالما تاق إليه طويلاً.

فأما الأول، فهو مسلسل الفتوة، من تأليف هاني سرحان وإخراج حسين المنباوي، وبطولة ياسر جلال، لا يحمل أي شكل وثائقي أو تاريخي بقدر ما يجسد أبعاداً اجتماعية، فمعظم الأعمال التي قدمت عن الفتوات كانت شديدة القتامة، أما هنا فالسيناريست يقدم ما يشبه الحدوتة حول طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الجيران وبعضها وبين العائلة، وشكل العمل في هذه المرحلة، قضية ممتعة على الصعيد الرومانسي والاجتماعي بخلاف ما تتخللها من مشاهد أكشن وعلاقات إنسانية.. وهو ما دفع صناعه إلى العودة للماضي وفتح الكتب ومشاهدة شكل الملابس وغيرها من التفاصيل، وعلى الرغم من أن هناك أعمالاً كثيرة في التسعينيات اتخذت منهجهًا من الحرافيش لنجيب محفوظ، فإن الصناع هنا لم يقتربوا من هذه المنطقة، فجاء عملهم مختلفًا.. جاء لتقديم عالم الفتوات وحي الجمالية القديم في عام 1850 وما بعدهما بصورة مختلفة شديدة الثراء والتميز، بدءًا من ديكورات القاهرة القديمة المتقنة التي قدمت للمسلسل صورة بصرية فريدة من نوعها، وصولاً للتنوع والثراء في رسم شخصيات الأحياء الشعبية والعلاقات بين الفتوات المتسلطين والتجار والأعيان والبسطاء فيها، وانتهاءً بحكاية المسلسل نفسها ودورانها حول البطل (الفتوة) حسن الجبالي وعلاقته بفتوات الجمالية في ذلك الزمان، فالمؤلف يبدأ مع البطل من منطقة تراوح بين القوة والضعف، فلم يكن هو الفتوة الذي يعتمد عليه أهل الجمالية لحمايتهم والدفاع عنهم، ولكنه استطاع أن يجعل من نفسه نصيرًا للغلابة والضعفاء في الظل من خلال شخصية (المُلثم) الذي يظهر في الخفاء وينصر الفقراء والضعفاء.

أما الثاني، فهو مسلسل (النهاية)، المثير للجدل بموضوعه وأحداثه، التي تتوقع فناء دولة إسرائيل بعد حرب يشنها العرب تُعرف بـ (حرب تحرير القدس)، وتفتت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدة دول، وذلك عام 2120 عندما يحاول مهندس مقاومة سيطرة التكنولوجيا على حياة البشر، لكن محاولاته تقوده إلى مواجهات خطيرة خاصة مع ظهور رجل آلى مستنسخ منه، فالخيال الدرامى هنا نفتقده فى أعمالنا ونادر جدًا وجوده فى الأعمال الفنية بالمنطقة العربية ككل، لما يحمله من ضخامة فى الإنتاج، ولما يستلزمه من عقول مبدعة تتخيل شكل حياة البشرية بعد مائة عام.. ومع إن إسرائيل تنتج بشكل متواصل أعمالاً فنية تهاجم العرب والفلسطينيين وتصورهم كإرهابيين، فإن الخارجية الإسرائيلية قالت في بيان لها، نشرته صحيفة جيروزالم بوست فقط، إن توقع نهاية إسرائيل الذي جاء في المسلسل (أمر مؤسف وغير مقبول، خصوصًا أنه يأتي بعد 41 عامًا من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل).. المسلسل الذي وضع فكرته بطل العمل يوسف الشريف، وسيناريو وحوار عمرو سمير عاطف، وإخراج ياسر سامى، تصدر منذ أول أيام عرضه، تريند موقع التواصل الاجتماعي تويتر في مصر.

ولأن العودة إلى الماضي القريب والحنين للثمانينيات وما حولها أصبحت أمراً معتاداً في مسلسلاتنا، بدءَا من مسلسل (ذات) المأخوذ عن رواية الأديب صنع الله إبراهيم، وكتبت له السيناريو مريم نعوم، واستطاع أن يحظى بإعجاب المشاهدين والنقاد، لما رسمه من صورة واقعية للمجتمع المصري وما حدث له من تغيرات، وبعده مسلسل (بدون ذكر أسماء) لوحيد حامد، ودار أيضًا في حقبة الثمانينيات، ورصد بشكل واقعى أحوال الطبقات البسيطة والفقيرة في القاهرة وما حولها، قدم أحمد عبد الفتاح تجربة مختلفة تمامًا عن كل ما كتبه من قبل في مسلسل (ليالينا 80)، من بطولة إياد نصار وغادة عادل وخالد الصاوى وإخراج أحمد صالح.. ومنذ حلقاته الأولى اتضح الاهتمام بإبراز أجواء وتفاصيل الفترة الزمنية التى تدور حولها أحداث المسلسل أكثر حتى من رصد تفاصيل الشخصيات وأحوالهم.

ومع عرض حلقته الأولى، استقبل الشعب المصري مسلسل (الاختيار) بحب وقبول شديدين، واحتل مكانه في اليوم الرمضاني لتلتف حوله العائلة، من كبيرها حتى صغيرها، لمشاهدة قصة حياة البطل منسي وتضحياته، ليست فقط على الجانب العملي داخل الجيش، بل إيضًا في حياته الاجتماعية والإنسانية.. وربما يكمن السر في كل هذا النجاح والارتباط الذي حققه المسلسل مع الجمهور المصري بشكل خاص والشعب العربي بشكل عام، أنه يروي لنا قصة فخر وعزة لشخصية مصرية تصدت لعدو من أعداء السلام والإسلام، وهذا النوع من الدراما يرتبط بالمشاهد بشكل وطيد نتيجة علاقته ببلده وارتباطه بها، بالإضافة إلى أن الشعب المصري مر بالعديد من الأزمات خلال السنوات العشر الماضية، وكان شاهدًا على محاربة مصر للعدو الداخلي والخارجي، فكانت هناك حاجة لسرد قصة بطل تزيد من ترابط الشعب، وتجعل المواطن يشعر بالفخر والانتماء لبلده.. وبعيداً عن الجانب الدرامي للعمل، فواحد من أسباب نجاحه هو بطله أمير كرارة الذي يتمتع بشعبية كبيرة، شاهده كل أفراد المجتمع، مما زاد من روح الانتماء والحب لبلدنا مصر.

وأخيرًا.. تحية لشركة سنيرجي، المنتجة لكل هذا الزاد الدرامي، والتي استطاعت أن تقدم تنويعة غير مسبوقة، قدمت فيها دروسًا وطنية وقيمًا اجتماعية، وحفزًا نحو مستقبل تكنولوجي، وهو ما افتقدناه طويلاً، ودعا رئيس الجمهورية إلى تحقيقه، ولكنه لم يلق أذنًا صاغية من صناع الدراما، إلى أن جاءت سينرجي وفعلتها.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.