رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قطرات الماء

صابر رشدى
صابر رشدى

القطار يمضى، يشق ستار الليل، يخترق المدن والمسافرون نيام. لا شىء هناك غير الصمت فى داخل العربات شحيحة الإضاءة، ورنين العجلات وهى تعزف لحنها الرتيب فوق القضبان، الذى يبعث معه نشاطًا من الصور والذكريات. كنت مرهقًا، أحاول النعاس، ولكنى لا أستطيع، فأنا لا أعرف الراحة أثناء السفر، أكون منضغطًا بجبين متعب، تمر علىّ الساعات وترتحل الدهور، وينشغل عقلى بلا هوادة بتفتيت الوقائع، وإتلاف كل معنى قد يؤدى إلى نتائج غير محببة.
الضوء والظلام، اليقظة والمنام، الماضى والمستقبل، كل الأضداد تهدر فى مخيلتى، ولا تعطينى فرصة لالتقاط الأنفاس، ثمة رجل مسن يجلس على المقعد المقابل، كلما استيقظت من غفواتى المتقطعة وجدته ينظر إلىّ بابتسامة غامضة، فى المرة الأخيرة اعتدل فى جلسته ثم سألنى مترفقًا:
- ما كل هذا القلق؟
كنت أشعر بأنى فى غيمة، أراه من وراء سحابة ساكنة.
- أنت تحبها!
قال معترضًا مسار تفكيرى.
أخذتنى حيرة مباغتة.
- هى أيضًا تحبك!
هنا لا ينبغى الإنكار وعدم الفهم.
- أعطنى جنيهًا!
قال. فعجبت، وتغيرت نظرتى، لكنى قررت عدم المجادلة.
أخرجت من جيبى ورقة نقدية. ولكنه أعادها إلىّ.
- أريد جنيهًا معدنيًا، أعرف صعوبات حبكما، أعرف السدود التى تواجهكما.
ثم أضاف بهدوء:
- الجنيه المعدنى فى جيبك الآخر.
فناولته إياه مندهشًا.
- إنها شديدة الحسن يا سيدى، أميرة من العصر الملكى، قلت.
- أعرف.
قال. ثم وضع الجنيه فى كفه، وظل صامتًا لبرهة قصيرة قبل أن يفاجئنى:
- افتح يديك.
امتثلت لأمره، جعل يعصر العملة بيده، فبدأت قطرات الماء تنزل فى كفى.
قال بعدها بلهجة آمرة:
- امسح وجهك بهذا الماء.
بالفعل، كان للماء تأثير سحرى، متجاوزًا كل ما أعرف ذهب معه كل جرح، كل ألم، كل وجيعة كامنة. ذهب السأم الذى يسلبنى راحة اليقظة.
- وهى يا سيدى؟ سألت.
أجابنى:
- هى الآن تمسح وجهها بهذا الماء فى منامها.