رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حب غير عادل

محمود-السانوسى
محمود-السانوسى

بعد أن ماتت أمل بأربعين يومًا تزوجت فريدة.. كنت أحسب أن أجمل أيام حياتى بعد أن تموت!.. إنها عرقلت كثيرًا من الحرية والسعادة.. كنت أعتقد ذلك وأرسم مشاهد للمتعة.. لا كراهية فى أمل.. إنها صارت زوجة بوصية من والدتى وهى على فراش الموت.. ولأن زواجى منها حفظنى من التشرد فالشقة التى كانت تؤوينى ووالدتى ملك لها، ولم تكن تقبل الإيجار إلا بعد إلحاح شديد، حتى إنها كانت تنفق كل ما تتقاضاه من والدتى على سبيل الإيجار فى دهانات الشقة.. إصلاح السباكة.. الكهرباء.. كما أسهمت فى تغيير باب الشقة المتهالك وقدمت سلفة لا ترد إلى والدتى لتركيب سيراميك بدلًا من البلاط المتآكل، وكذا غيرت المطبخ وأبدلت سريرى وأحضرت لى مرتبتين إحداهما من القطن الأبيض والثانية من الإسفنج المضغوط.. ولم تكن كل تلك الخدمات إلا لأنها يتيمة وريثة جدتها الوحيدة صاحبة العمارة ذات الأربعة طوابق، ولا تريد إلا ما وعدته أمى لها وما اتفقت عليه فى جلسة نسائية مع جدتها، حتى إنها قرأت الفاتحة وزغردت وقدمت وليمة لكل سكان العمارة، غير أننى لم أكن لأعارض بعد أن ضبطتنى أمى متلبسًا فى بير السلم ألتقم ثدى أمل الأسود.. كنت مراهقًا عجولًا.. والحب عندى مجرد شهوة.. لم أجد غيرها تعيرنى انتباهًا ولم تكن أمل بالمراهقة بل فتاة تجاوزت العشرين بثلاث سنوات، بينما أنا لم أكن إلا ابن السبعة عشر عامًا، وما حدث لا يعنى أن تنكسر عيناى حرجًا ووالدتى تحدثنى بوضوح.. إن هذا الأمر متروك لى.. ويجب أن أتخذ قرارًا صريحًا.. فما كان منى إلا أن أتأرجح بين أول أنثى أشعر أمامها بذكورتى وبين أنها لا تمثل جمالًا ملحوظًا، ثم إنها سوداء حالكة كالليل لا يدهشنى إلا هلال أسنانها الذى إن أشرقت ابتسامتها ظلت عزبة عفوية تحمل تأوه أنثى أشد من الحرير نعومة ومسكنة ومودة تألفها إن تنقلت فى الكلام بين الهزل والجد، عبثها كجدها، خجلها كجرأتها، كلامها كصمتها، وحنانها كجفائها.. لم أجد أمامى إلا أن أختارها زوجة بعد أن حاولت أن أتخطى الثأثأة والتأتأة وعيوب النطق عندى، وأقول لفريدة أنا الذى يحبك، هذا التاجر الجنتل مان الذى لا يترك مشهدًا يراك فيه إلا قدم مائدة من الغزل ورسم لك البحر طحينة لا تصدقيه.. هم الفتيان كلهم هكذا حتى ينالوا مرادهم، يتأوهون عشقًا ويهيمون حتى يأكلوا ثمر الحب حتى يتقيأوا الكراهية والهجر.. لكن كونى بلسان يثير السخرية كلما حاول أن يثبت أحقيته فى أن يكون عاشقًا.. هذا ما قالته فريدة لحسام صاحب محل العطور والهدايا.. شاكية له أو ربما محرضة له حتى تشعل داخله الغيرة، فكان اللقاء الصادم.. الشجار الذى تلقيت فيه إهانة لم أكن معدًا لاسترداد كرامتى فيها ما دامت فريدة هى الحليفة فأنا العزول.. هو الأقوى بفصاحته بعضده الذى شده.. بنظراتها الفرحة بديك البرارى وهو يزعق فى وجهى مكررًا: مالك ومالها يا أخى.. احترم نفسك.. إنت مش شايف حالتك!.. المرآة تقول ماذا؟ مواساة أمى لم تكفنى، فدائمًا ما أسمع الأمثال الشعبية من النسوة العجائز كلما مدحتنى أمى بأى خصلة حتى وإن لم يرها غيرها.. إنتى كده دايمًا يا أم منير.. صحيح على رأى المثل القرد فى عين أمه غزال.. لكن المرآة التى وقفت أمامها ساعات أهذب شعرى وأحلق ذقنى وأزين ملابسى.. هذا القميص يليق على هذا البنطال.. ما دام القميص.. تلك الشياكة الباذخة كانت بمساهمة من أمل التى جرت تحضر المكواة لتكوى ملابسى.. وأغلى تركيبة عطر أحضرتها من محل حسام، ذاكرة له على سبيل تكدير صفوه: على فكرة دا لسيد الرجالة الأستاذ منير الطيب الأمير.. هى قالت له فعلًا سيد الرجالة.. نعم يا ولدى.. أمى يجب أن أتأكد منها.. طبعًا وهى فرحة وهى ممتنة ونشطة فى مناداة أمل.. أحضرى بسرعة السعد جالك يا أمل.. الظريف الطريف اللى عليه العين.. ها ها ها.. محتاج يسمع منك.. وما إن رأيت أمل حتى استفردت بصوتها الذى أحس باحتياجى إلى الثناء كدعم معنوى وهى لم تقصر فى هذا الثراء العاطفى، حتى إنها تفوقت على أمى فى ذكر محاسنى وخصالى الحميدة.. بل إنها نطقت بكثير من الصفات التى أخجلتنى أمامها ولم يكن بمقدور أمى أن تنطقها.. ظل وقع كلماتها مختلفًا فى أثره النفسى، فما قالته أمى لا يتعدى مدح أُم فى ابنها.. أما أمل فهى أنثى رضخت بإرادتها لكثير من التنازلات الجسدية.. قُبلة.. حضن.. حتى إننى شعرت بأنه لا بد من الزواج منها، فهى خبرتى الوحيدة الأصيلة المؤكدة، وكل ما عداها مجرد هواجس تظهر فى حياتى كلما رأيت فريدة تتمخطر لإغراء الفتى النطع حسام وهو مرابض فى منتصف الشارع حارس عاطفى إن تجاوز أحد الشبان معها، يرعاها حتى من كلمات الأغانى والمطربين إن أظهرت إعجابها بأحدهم، متنمرًا عليها فى تكبر: كونى معى أنا.. أنا فقط الذى ينطق بالجميل الناضج.. ثمارك أرضى وجسدك بحرى.. إن شربتك كلك صرت مطرًا يا غزيرة الأنوثة.. يا.. ويا.. ويا.. حتى جاء الوقت الذى صدمنى خبران فى آنٍ واحد عرفتهما من أمل، تأكد لى الخبر بما رأيته بعينى.. وبما أقسمت والدتى عليه لاعنة هذا الأفاق الغادر بعد أن أضر بسمعة فريدة تخلى عنها وتهرب من إتمام الزواج.. يقسم أمام جدة أمل إنه لم يتقدم من الأساس لخطبة فريدة.. وإن كل ما حدث مجرد إعجاب من طرف فريدة به.. أما هو فكان يعاملها كأخت لا أكثر وهى التى تمادت وحاولت.. إلا أنه لا يفكر إلا فى الزواج من أمل.. ذكرت أمى أمامى فى نوع من الوعى بما يدور فى ذهن هذا الأفاق المدعى حسام، مؤكدة أنه لم يكن ليترك الفتاة الجميلة من أجل السوداء، مشيرة إلى قلة جمال وجاذبية أمل، إلا لأن أمل لديها ميراث، وأمل وحيدة ولن تجد من يحاول أن يحافظ على أموالها من هذا النصاب الطامع فى أموالها.. كما أنه ورد إلى علمها ما يعانيه من أزمة مالية بسبب ديون متراكمة على محله وتجارته.. أجرت حوارها كله أمامى وهى تحفزنى أن أكون واعيًا وحريصًا ومدبرًا أمرى ما دامت الفتاة اختارتنى، فلمَ لا أحفظ ودها بنت الحلال المؤدبة التى لم تعط أحدًا غيرك هذا الحنان والرعاية والاهتمام الذى رأيته بعينى وأحسسته بقلبى؟.. أذكرك.. ونغزتنى بكوعها ضاحكة حتى يتولد من لسانى الأعرج كلمات متناثرة، وصرت مصرًا أكثر من والدتى على إتمام الزواج من أمل فى أقرب وقت، لا طمعًا فى ميراث أمل، بل كيدًا فى هذا الأفاق المخاتل الذى سرق منى قلب فريدة وأهاننى أمام أهالى المنطقة، لحظتها صرت فرحًا أميل إلى إظهار الحب والاحترام لأمل التى نصرتنى وأعزتنى على عدوى خاطف قلب فريدة.