«واثق الخطى».. بخيت بيومي: عناية الله أنقذتني وإشادة «ضحكة مصر» وسامي الأعظم
محافظة الدقهلية.. عام 1947
الآن يُبلغ الصبي من العمر خمس سنوات، هذا الوقت يمثل لحظة الاستمتاع ببراءة الطفولة ونشوة التلذذ بنعيم الأيام، لكن شاءت الظروف أن يدخل هذا الطفل اختبار الحياة الصعب مبكرا جدا، فالأم التي تعمل خياطة ملابس في إحدى قرى مركز شربين فاضت روحها إلى السماء، وهي لحظة من فرط قسوتها يبدو وكأن الحياة تتوقف معها تماما.
ابنها الوحيد الآن في حضرة أبيه، لكن الوالد يتخذ قراره بالزواج من امرأة أخرى، وتصعب محاولات إقناع الطفل بالبقاء معه، حينها وجد الصبي نفسه محاطا بظلمات ثلاث، الأولى ظلمة المال وندرته فالطفل لم يؤتِ سعته من القوة بما يعنيه على كسب قوته، والثانية ظلمة السكن فليس هناك مأوى يلجأ إليه إلا رصيف الشارع، أما الظلمة الثالثة فكانت ذلك المستقبل المجهول.
طالع الأيام وحاضرها يرسم صورة واحدة مرادفها هو الانحراف، وليس هناك من سبيل إلا المضي في طريق الغي، رغم ضبابية الأجواء لكن عناية الله من فوق سبع سموات لها رأي آخر مثلما سلبته الرحمة والحنان برحيل الأم، فإنها وهبته الأمان والسلام النفسي بما يكفي لتجاوز مرارة الأيام، حين فتحت له بابا من الرحمة، مفتاح هذا الباب كانت جدته لأمه، فقد أنقذته تلك السيدة من الذهاب في طريق اللاعودة إلى حيث يكون الطريق إلى دنيا الله.. فكيف كان الله في حياة شارع الرصيف بخيت بيومي؟
وإلى نص الحوار..
◘ «روّح يا بخيت يا ابن فوقية.. يجعلك في البحر طريق.. وفي البر رفيق.. ويحبب فيك تراب الأرض اللي بتمشي عليه» أعظم دعوة سمعتها في حياتي.. و«أمين» و«الموجي» أصحاب فضل كبير على مشروعي
- الطريق إلى الله في حياة شاعر العامية بخيت بيومي مر بمحطات متباينة وشديدة الصعوبة، ففي لحظات البدايات كان محطات الانكسار أكثر عددا من مرات الانتصار، لكن ثمة يقين في قلبه جعله ساكنا مطمئنا بأن الغد يحمل له الأفضل.. فكيف كانت الأجواء داخل ملعب الحياة خلال تلك الفترة؟
يسترجع شاعر الرصيف ذكريات تلك الأيام قائلًا: «اعتبر نفسي إنسان يتيم الأبوين لم أعرف أبي جيدا، وكل ما أذكره عن أمي أنها كانت سيدة تعمل خياطة في قرية تُدعي "كفر الحطبة" بمدينة شربين بمحافظة الدقهلية، وحين بلغت الخامسة من عمري فاضت روحها إلى السماء، بعدها تزوج أبي من سيدة أخري وفشلت كل محاولات إبقائي معه، وأصبحت علاقتي معه لاحقا نسيا منسيا، فقد ابتعد عني ولم أعلم عنها شيء زمنا، وأصبحت شخصا وحيدا ليس لي صديق إلا رصيف الشارع، والذي اتخذته رفيقا ومؤنسا يوما وبضعة أيام تالية».
حينها تدخلت عناية السماء لإنقاذي من التشرد، فقد أخذتني جدتي لأمي في بيتها لأعيش معها بصحبة ابنتها وزوجها وأبنائهم، بالرغم من أنها كانت تعيش حياة صعبة وتعاني من ضيق الرزق، فهي لم تؤت حظا من المال يكفيها لإقامة دنيا سعيدة، لكنها لم تبخل علّي بشيء سواء كان ماديا أو معنويا، بل أنها وسط هذه الصعوبات قررت إلحاقي بمرحلة التعليم الابتدائي.
لكن هذا التجربة لم يكتب لها في بدايتها النجاح أو التوفيق، لأن عمري آنذاك كان خمس سنوات فأنا مواليد عام 1942، فلجأت هي إلى حيلة تسجيلي في شهادة الميلاد باعتباري من مواليد عام 1937، وبالفعل التحقت بالمدرسة وظلت جدتي ترعاني حتى بلغت من العمر ثمانية عشر عاما.
خلال هذه السنوات كان الهدف الأول الذي سعت تلك الجدة العظيمة لتحقيقه، هو تنفيذ وصية والدتي فقد أوصتها بتحفيظي القرآن الكريم، وهو ما حدث فقد أتممت حفظ كتاب الله في سنة، وخلال تلك المرحلة بدأت عاطفتي تحترق حبا وشوقا بالقراءة، ولذلك بدأت بصورة يومية في المواظبة على شراء الصحف وتحديدا جريدة "روزاليوسف"، وسبب ذلك أنها كانت تنشر آنذاك رواية "في بيتنا رجل" للراحل العظيم إحسان عبدالقدوس، وتلك الرواية جعلتني مغرما باقتناء الكتب ومفتونا بشراء المجلات.
عالم القراءة هذا ومن بعده السفر بصورة يومية من قريتي إلى مدينة المنصورة، جعلني شخص "ريفي ابن بندر" أمتلك طيبة أهل الريف وذكاء أبناء المدينة، بالرغم من تلك الأجواء شديدة الصعوبة إلا أنني نجحت في الحصول على الثانوية الأزهرية، لكن بعدها تقطعت بي السبل ولم أجد عونا أو دعما من أحد، وبات من الصعوبة الالتحاق بالمرحلة الجامعية ولم يكن أمامي من مفر إلا الهجرة إلى القاهرة لأجل لقمة العيش.
حينها أخبرت جدتي بما عزمت على تنفيذه، ولم انته من حديثي معها إلا ووجدتها وهي تدعو لي قائلة "روّح يا بخيت يا ابن فوقية.. يجعلك في البحر طريق.. وفي البر رفيق.. ويحبب فيك تراب الأرض اللي بتمشي عليه"؛ واعتقد أن تلك الدعوة الصالحة الخالصة من القلب اخترقت حاجز السماء وتقبلها الله؛ لأنني من لحظتها وإلى الآن أحيا ببركتها، ففي كل خطواتي أشعر بأن عناية رب العباد ترعى سكناتي وحركاتي.
حين نزلت في القاهرة سكنت تقريبا في كل أحيائها الشعبية، وتنقلت من مكان إلى آخر إلى أن استقريت في كلية العوالم المعروفة بشارع محمد على، وقتها بدأت أذني تميل لسماع الشعر من عمالقة هذا الفن أمثال مرسي جميل عزيز وأحمد رامي ومأمون الشناوي وغيرهم، وهو ما دفعني لشراء الكتب الخاصة بالأغاني والموسيقى.
في الفترة من عام 1962 وصولا لعام 1969 عشت في القاهرة حياة بائسة أغلب أوقاتها قضيتها مُشردا جائعا بلا نقود حتى العياء، ولم يعرني العابرون حتى الرثاء، البؤس يخرج من صوتي ومن صمتي، لم أجد وسيلة غير أن أرقرق الآه الحزينة، وأعتقد أنني لو توفاني الله خلال تلك الفترة لكان تم دفني في مقابر الصدقة دون أن يشعر أو يسأل عني أحد.
في نهاية 1969 كنت قد وصلت لشفا حفرة من الضياع، لكن الله تجلي علّي بكرمه بعدما أرسل لي ملحن يدعي محمد ضياء الدين، والذي كان سببا في تعرفي على الصحفي الكبير آنذاك نبيل عصمت، والذي كتب عني في جريدة "الأخبار" مقالا مبشرا من خلاله بميلاد شاعر ينتظره مستقبل كبير.
لحظتها بدأت في اكتشاف موهبة الشاعر بداخلي، وحينها وجدت أن تلك الموهبة تشبه الذهب لكنها فقط كانت بحاجة إلى من يزيل عنها الغبار ليظهر بريقها ولمعانها، وهنا أتى دور الجواهرجي الملحن والشاعر الكبير حلمي أمين ليضعني على أول الطريق، فقد اعتبرني فردا من ضمن أسرته ومنحني دعما لا محدود، ومعه أيضا الملحن الكبير محمد الموجي، وأقول إن الفضل الأكبر في شهرتي يعود إليهما.
لحظة الميلاد الثاني جاءت بعدما كتبت أغنيتي الأولى للراحلة العظيمة ليلي مراد، ثم انطلقت مسيرتي بعدها حيث كتبت أكثر من 300 أغنية لعدد من الفنانين الكبار أمثال صباح وسعاد محمد والمطربة وردة ووقتها شعرت أنني أولد من جديد، ثم تلى تلك الخطوة النقلة الكبرى في حياتي بكتابة المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية.
وأسعد لحظات حياتي وقت أن كتب عني الساخر الأعظم أحمد رجب في عموده نص كلمة، فهذه شهادة اعتبرها أعظم وسام في حياتي.
◘ «روّح يا بخيت يا ابن فوقية.. يجعلك في البحر طريق.. وفي البر رفيق.. ويحبب فيك تراب الأرض اللي بتمشي عليه» أعظم دعوة سمعتها في حياتي.. و«أمين» و«الموجي» أصحاب فضل كبير على مشروعي
- الطريق إلى الله في حياة شاعر العامية بخيت بيومي مر بمحطات متباينة وشديدة الصعوبة، ففي لحظات البدايات كان محطات الانكسار أكثر عددا من مرات الانتصار، لكن ثمة يقين في قلبه جعله ساكنا مطمئنا بأن الغد يحمل له الأفضل.. فكيف كانت الأجواء داخل ملعب الحياة خلال تلك الفترة؟
يسترجع شاعر الرصيف ذكريات تلك الأيام قائلًا: «اعتبر نفسي إنسان يتيم الأبوين لم أعرف أبي جيدا، وكل ما أذكره عن أمي أنها كانت سيدة تعمل خياطة في قرية تُدعي "كفر الحطبة" بمدينة شربين بمحافظة الدقهلية، وحين بلغت الخامسة من عمري فاضت روحها إلى السماء، بعدها تزوج أبي من سيدة أخري وفشلت كل محاولات إبقائي معه، وأصبحت علاقتي معه لاحقا نسيا منسيا، فقد ابتعد عني ولم أعلم عنها شيء زمنا، وأصبحت شخصا وحيدا ليس لي صديق إلا رصيف الشارع، والذي اتخذته رفيقا ومؤنسا يوما وبضعة أيام تالية».
حينها تدخلت عناية السماء لإنقاذي من التشرد، فقد أخذتني جدتي لأمي في بيتها لأعيش معها بصحبة ابنتها وزوجها وأبنائهم، بالرغم من أنها كانت تعيش حياة صعبة وتعاني من ضيق الرزق، فهي لم تؤت حظا من المال يكفيها لإقامة دنيا سعيدة، لكنها لم تبخل علّي بشيء سواء كان ماديا أو معنويا، بل أنها وسط هذه الصعوبات قررت إلحاقي بمرحلة التعليم الابتدائي.
لكن هذا التجربة لم يكتب لها في بدايتها النجاح أو التوفيق، لأن عمري آنذاك كان خمس سنوات فأنا مواليد عام 1942، فلجأت هي إلى حيلة تسجيلي في شهادة الميلاد باعتباري من مواليد عام 1937، وبالفعل التحقت بالمدرسة وظلت جدتي ترعاني حتى بلغت من العمر ثمانية عشر عاما.
خلال هذه السنوات كان الهدف الأول الذي سعت تلك الجدة العظيمة لتحقيقه، هو تنفيذ وصية والدتي فقد أوصتها بتحفيظي القرآن الكريم، وهو ما حدث فقد أتممت حفظ كتاب الله في سنة، وخلال تلك المرحلة بدأت عاطفتي تحترق حبا وشوقا بالقراءة، ولذلك بدأت بصورة يومية في المواظبة على شراء الصحف وتحديدا جريدة "روزاليوسف"، وسبب ذلك أنها كانت تنشر آنذاك رواية "في بيتنا رجل" للراحل العظيم إحسان عبدالقدوس، وتلك الرواية جعلتني مغرما باقتناء الكتب ومفتونا بشراء المجلات.
عالم القراءة هذا ومن بعده السفر بصورة يومية من قريتي إلى مدينة المنصورة، جعلني شخص "ريفي ابن بندر" أمتلك طيبة أهل الريف وذكاء أبناء المدينة، بالرغم من تلك الأجواء شديدة الصعوبة إلا أنني نجحت في الحصول على الثانوية الأزهرية، لكن بعدها تقطعت بي السبل ولم أجد عونا أو دعما من أحد، وبات من الصعوبة الالتحاق بالمرحلة الجامعية ولم يكن أمامي من مفر إلا الهجرة إلى القاهرة لأجل لقمة العيش.
حينها أخبرت جدتي بما عزمت على تنفيذه، ولم انته من حديثي معها إلا ووجدتها وهي تدعو لي قائلة "روّح يا بخيت يا ابن فوقية.. يجعلك في البحر طريق.. وفي البر رفيق.. ويحبب فيك تراب الأرض اللي بتمشي عليه"؛ واعتقد أن تلك الدعوة الصالحة الخالصة من القلب اخترقت حاجز السماء وتقبلها الله؛ لأنني من لحظتها وإلى الآن أحيا ببركتها، ففي كل خطواتي أشعر بأن عناية رب العباد ترعى سكناتي وحركاتي.
حين نزلت في القاهرة سكنت تقريبا في كل أحيائها الشعبية، وتنقلت من مكان إلى آخر إلى أن استقريت في كلية العوالم المعروفة بشارع محمد على، وقتها بدأت أذني تميل لسماع الشعر من عمالقة هذا الفن أمثال مرسي جميل عزيز وأحمد رامي ومأمون الشناوي وغيرهم، وهو ما دفعني لشراء الكتب الخاصة بالأغاني والموسيقى.
في الفترة من عام 1962 وصولا لعام 1969 عشت في القاهرة حياة بائسة أغلب أوقاتها قضيتها مُشردا جائعا بلا نقود حتى العياء، ولم يعرني العابرون حتى الرثاء، البؤس يخرج من صوتي ومن صمتي، لم أجد وسيلة غير أن أرقرق الآه الحزينة، وأعتقد أنني لو توفاني الله خلال تلك الفترة لكان تم دفني في مقابر الصدقة دون أن يشعر أو يسأل عني أحد.
في نهاية 1969 كنت قد وصلت لشفا حفرة من الضياع، لكن الله تجلي علّي بكرمه بعدما أرسل لي ملحن يدعي محمد ضياء الدين، والذي كان سببا في تعرفي على الصحفي الكبير آنذاك نبيل عصمت، والذي كتب عني في جريدة "الأخبار" مقالا مبشرا من خلاله بميلاد شاعر ينتظره مستقبل كبير.
لحظتها بدأت في اكتشاف موهبة الشاعر بداخلي، وحينها وجدت أن تلك الموهبة تشبه الذهب لكنها فقط كانت بحاجة إلى من يزيل عنها الغبار ليظهر بريقها ولمعانها، وهنا أتى دور الجواهرجي الملحن والشاعر الكبير حلمي أمين ليضعني على أول الطريق، فقد اعتبرني فردا من ضمن أسرته ومنحني دعما لا محدود، ومعه أيضا الملحن الكبير محمد الموجي، وأقول إن الفضل الأكبر في شهرتي يعود إليهما.
لحظة الميلاد الثاني جاءت بعدما كتبت أغنيتي الأولى للراحلة العظيمة ليلي مراد، ثم انطلقت مسيرتي بعدها حيث كتبت أكثر من 300 أغنية لعدد من الفنانين الكبار أمثال صباح وسعاد محمد والمطربة وردة ووقتها شعرت أنني أولد من جديد، ثم تلى تلك الخطوة النقلة الكبرى في حياتي بكتابة المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية.
وأسعد لحظات حياتي وقت أن كتب عني الساخر الأعظم أحمد رجب في عموده نص كلمة، فهذه شهادة اعتبرها أعظم وسام في حياتي.
◘ احترفت الفن وهدفي أن أقدم فنا يجمع ولا يفرق.. والآية الكريمة «إن أرُيد إلا الإصلاح ما استطعت» كانت دستوري الذي أسير عليه.
- يقول بخيت بيومي في كل أحاديثه أفخر بأنني مواليد القرن العشرين، فهذا القرن هو معجزة الزمان منذ بدء الخليقة فقد شهد حضورا مكثفا للعمالقة في كل مجالات الأدب والفن والثقافة، وأنا فخور بأنني في يوما ما كنت واحدا من أفراد تلك الكتيبة المهمة والملهمة في آن واحد، والآن بعد مرور ما يقارب 20 عاما على القرن الحادي والعشرين، فأنا أتعامل معه باعتباري ضيفا لا أكثر من ذلك ولا أقل.. فلماذا لا يمل شاعر العامية من تكرار تلك العبارة؟
يُجيب: أيامي وأحلامي الكبرى كلها تحققت خلال هذا القرن، فقد عشت خلاله أيام من التشرد وأعوام من النجاح، فمثلا عام 1979 اعتبره زمن جني الثمار الذي زرعته خلال سنوات عملي الماضية، فآنذاك بدأت العمل مع العملاقين الكبيرين فؤاد المهندس وشويكار عبر تقديم عدد من المسلسلات الإذاعية، ثم جاءت النقلة الكبرى في حياتي بتقديم فوازير شهر رمضان بصحبة الفنانة نيللي.
من لحظتها تنوعت أنشطتي الثقافية والفنية، وأصبحت لاعبا أساسيا في خطة كل الفنانين والمطربين، فأن تحجز لنفسك مقعدا على مائدة هؤلاء الكبار عملا واسما وفنا ليس أمرا هينا، والآن حين أعاود النظر إلى الخلف أفخر بأنني جمعني العمل مع كل من محمود ياسين ومحمد صبحي وعبدالمنعم مدبولي ويونس شلبي وغيرهم من النجوم الكبار، وبلغت حصيلة ما قدمته من أعمال إذاعية وتليفزيونية ما يوازي 67 عملا ومسلسلا من خلالها تحققت كل أمالي العظمي حيث الشهرة والثراء والخلود.
لما بلغت الأربعين من عمري وجدت نفسي أقول «ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علّي»، فخلال هذا العام توافر معي المال الكافي، ولأن الإنسان على نفسه بصيرة فقد كان هدفي حينها هو أن أعمل عملا صالحا، فبدأت احتراف مهنة الفن وأخذته في حضني، فكان هدفي أن أقدم فنا يجمع ولا يفرق، يزرع القيمة ولا يهدم الفضيلة، ينشر المكارم ويحجم الرذائل، وأعتقد أنني نجحت في ذلك جدا، وكنت أعتبر الآية الكريمة «إن أرُيد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله» دستوري الذي أسير عليه.
خلال سنوات القرن العشرين كان الانحياز للموهبة هو الطاغي، وكانت وحدها هي جواز المرور لعالم الشهرة، فالكتابة فكرة شديدة الصعوبة، ومن يكتب يجب أن يكون قادرا على ابتكار فكرة ومن ثم صياغتها، لكننا الآن نعيش حالة انتكاسة حقيقية فالشاعر الحقيقي لم يعد موجودا والملحن الموهوب اختفى في ظروف غامضة.
حتى المطربين أصحاب المواهب الحقيقية أصبحت أعينهم تنظر إلى المال قبل أن تهتم بالقيمة، وصار هناك شعارا مرفوعا إلا وهو "أبجني تجدني"، قديما كانت هناك قاعدة تقول بأن ليس كل ما يكتب شعرا يغني، لكن في زماننا هذا انقلبت الآية تماما، ولذلك تاهت الأغنية واختفى الإيقاع في زحمة هذا الزمن الصعب.
◘ يوجد حوار متبادل بيني وبين ربي وإجابته تأتي أسرع مما أتوقع فأقول له مخاطبا «مستعجل ليه».. ومساعدة الغير أفضل الأعمال الصالحة
- «الله كريم اسمه الكريم وأحن منه مفيش.. كريم ولما أقصده في الشدة ميفوتنيش.. فاتحلي بابه وغير باب الكريم مالاقيش.. دا خيره دايما عليا وبعنايته بعيش.. وكريم على الخلق كل الخلق رازقها.. منين ما تمشي تلاقي الرزق سابقها.. مادام تكافح وتسعى لأجل لقمة عيش».
حين أراد الشاعر الكبير بخيت بيومي مناجاة رب العباد فإنه صاغ تلك الأبيات السابقة، كعرفان بالفضل والمنة.. فكيف كان رحلته داخل دنيا الله؟
يقول: منذ صغري وأنا أشعر بأن في عنقي جميل وفضل لا أقدر على سداده تجاه خالقي ومولاي، فلولا عنايته ولطفه لم أكن لأصل لما أنا عليه الآن من نعمة وفضل، ولذلك حين قمت بكتابة هذا الموال السابق كان هدفي هو رد الدين الذي في رقبتي تجاه ربي، وللعلم فقد قمت بكتابة أسماء الله الحسنى في 30 موالا غناها محمد عبد المطلب بجانب 10 مواويل أداها محمد قنديل في الإذاعة.
من نعم الله الكبرى على شخصي هي حفظي للقرآن الكريم، وأعتقد أنني حاليا أعيش في ظل بركته، وهذه البركة هي التي عصمتني من الآثام وحفظتني من شرور نفسي، والآن وأنا أقترب من عامي الثمانين، مازلت أتمتع بفضل الله بموفور من الصحة جعلني لا أستند على عصى، فقد حفظت الله في نعمه في صغري فحفظتني في الكبر، وإلى الآن أسير في الأرض بمنطق واثق الخُطي يمشي ملكا.
بيني وبين الله عمار وعلاقة من نوع خاص، لم أقصد بابه راجيا وطالبا وداعيا إلا ومنحني أكثر مما أرجو وأتمنى، فأنا لم أقصر مطلقا في حقه ودائما ما أقيم صلواتي وأؤدي زكاتي، ولذلك في كل لحظة حوار متبادل بيني وبين ربي، أجد الإجابة من جانبه أسرع مما أتوقع ووقتها أقول له مخاطبا «مستعجل ليه».
خلال سنوات عملي في شارع الهرم، كانت كل الطرق أمامي متاحة لممارسة فعل الهوى، لكن خوفي من غضب ربي، جعلني أبعد عن ممارسة الرذيلة أو حتى قضاء نزوات عابرة، خاصة أنني حينها كنت أعيش في مجتمع يحوي العديد من الساقطات وفتيات الليل.
وحين بدأت في كتابة مذكراتي التي حملت عنوان «موسوعة الحريف لبخيت ابن بيومي شارع الرصيف»، لم أجد فعلا مشينا أو حدثا أخجل من كتابته، الآن أنعم بالسعادة، واليوم الذي لا أضحك فيه هو يوم اعتبره يحسب بالسالب من حياتي، فقط أحلم بأن يديم الله على نعمة الصحة وأن يبقى قلمي مستمرا في السير على الورق يبدع ويتألق ويتأنق، وأتمنى أن أبقي ضاحكا حتى ألقى الله.
وأخيرا أقول، شعائر الدين الإسلامي متنوعة وكثيرة أمارسها جميعا لكني لم أوفق في أداء فريضة الحج أو العمرة، لكني مؤمن بأن أفضل الأعمال الصالحة هي مساعدة الغير، وقد وفقني الله في أن أكون فاتحة خير لكثير من عباده.