رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المصريون السيناوية أبطال في كل معارك الوطن


بعد النصر العسكري السريع الذي حققته إسرائيل في يونيو 1967، وما تبعه من غطرسة وعربدة في سيناء، بدأ العمل على مقاومة العدو وإقلاقه الدائم، فضلًا عن ضرورة الحفاظ على صلابة ومعنويات أهل سيناء، فكان التخطيط الفوري لعمليات مقاومة انطلقت بعد النكسة بخمسة أيام فقط.. بدأت بضرورة نسف المعدات والأسلحة المتخلفة عن انسحاب الجيش المصري، لمنع العدو من الاستفادة منها أو استغلالها دعائيًا في معرض غنائم أقيم في إسرائيل، وقد شملت هذه الخطة كل سيناء، وأداها زعماء القبائل وشبابها، بوطنية وحماس وصدق شديدين، وهم الذين رأى فيهم الإسرائيليون ــ في بداية الأمر ــ أنهم بلا حول ولا قوة، كما أنهم لم يثقوا كثيرًا في صدق ولائهم للدولة الأم.. مصر.

عدت إلى قراءة كتاب (حكايات من حرب الاستنزاف) الذي أهداه إليّ مؤلفه، الصديق محمد علي السيد، مدير تحرير مجلة آخر ساعة وعضو اتحاد الكتاب، الذي روى فيه الكثير من بطولات رجال العمليات الخاصة وأبناء سيناء خلال حرب الاستنزاف، وأكد فيه أن في حكايات نضال أهالي سيناء الكثير من الفخر، وسجل وطنيتهم حافل بالبطولات، في أزمة حرب يونيو وخلال حرب الاستنزاف، وحتى نصر أكتوبر وتحرير سيناء.. فهؤلاء الأبطال من قام بنقل الشاردين من أبناء القوات المسلحة والمصابين، في حرب الساعات الست، إلى غرب القناة، وتوفير الماء والطعام لهم، والأدلّاء لقيادتهم في الطرق والدروب الصحراوية.. وهم من أنشأ مركز إعاشة في بئر العبد لإخلاء الضباط والجنود، إلى جانب مراكز مصفق وجلبانة، وسط النخيل الكثيف لإخفاء الأفراد، بعد أن يستخدمون الماعز في محو آثار أقدامهم.. وهم من أخفوا الكثير من الضباط والجنود في المنازل.. ودفعتهم وطنيتهم وأمانتهم إلى إخفاء ثلاثمائة ألف جنيه، حصيلة أحد البنوك هناك لمدة طويلة، والذي استخدمته المخابرات، بعد ذلك، في صرف مرتبات الموظفين في سيناء، الذين انقطعت رواتبهم من الإدارة في القاهرة.. ولك أن تتخيل قيمة هذا المبلغ الشرائية في ذلك الوقت، ومدى ما يمثله من إغراء لكل ضعيف نفس، لكنها الوطنية والشهامة المصرية.

هؤلاء الأبطال هم من كتم سر مخزن ذخيرة مصري، لم يكتشفه الإسرائيليون في 67، حتى استلمته قواتنا من جديد، سليمًا بعد نصر أكتوبر 73.. وهم من استخدم البطاقات الشخصية والعائلية في سجل مدني العريش، لإصدار بطاقات لأفراد القوات المسلحة، لإيهام قوات الاحتلال أنهم من أبناء سيناء، ومن بينهم خرج المواطن شلاش خالد عرابي ليقوم، في عام ونصف فقط، بحوالي 64 رحلة عبر ملاحات بور سعيد القاسية، لتوصيل الجنود والحصول على المعلومات عن العدو الإسرائيلي.. والأهم، وقفة مشايخ القبائل الشجاعة عام 1968، في مؤتمر صحفي عالمي، دعى إليه موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي ــ المنتصر آنذاك ــ ليعلن تدويل سيناء وطلب حمايتها من إحدى الدول العظمى.. وهنا هب الشيخ سالم علي الهرشي، شيخ قبيلة البياض، ليعلن بشجاعة نادرة، أن سيناء وأهلها مصريون، ورئيسها هو جمال عبد الناصر.. وإذا كان الحق ما شهدت به الأعداء، فهنا يحضرني اعتراف قاضي المحكمة العسكرية الإسرائيلية، أثناء نظره إحدى قضايا القبض على وطنيين مصريين من سيناء، يتعاونون مع الجيش المصري، والذي قال فيه بالنص: (لقد اختار ضباط المخابرات المصرية رجالًا من سيناء، توسموا فيهم الفراسة، ودربوهم على تمييز الأسلحة والوصف الجيد لكل ما يشاهدونه.. وهو ما جعل من منظمة سيناء العربية، التي تكونت من هؤلاء الرجال، شيئًا يستحق أن يعمل له كل حساب).

في نهاية يونيو 67، قامت القوات الإسرائيلية بتشوين الأسلحة والذخائر المصرية في تجمعين، أحدهما في المنطقة ما بين الإسماعيلية والسويس، والآخر عند محطة قطار الشرق الذي كان يعمل حتى قطاع غزة، وقاموا بتهديدنا باستخدام أسلحتنا لضربنا، ونقل الكثير منها لمعرض غنائم في تل أبيب، مستغلة أسرانا في تحميل سلاحنا على قطارنا.. وجاء ردنا على هذا الموقف من خلال البطل إبراهيم الرفاعي، الذي قام مع رجاله بتلغيم التشوينات التي انفجرت وزلزلت الأرض على مدي ثمانية ساعات متصلة.. بينما عبر مروان عبد الحكيم، لنسف قضبان السكك الحديدية في القنطرة شرق، لمنع القطار من الحركة، ففوجئ بتحميله بكميات كبير من الأسلحة والذخيرة، فانتظر حتى انتهي العمل وقام بنسف القضبان والقطار معًا، محدثًا زلزالًا آخر في الشمال.. وقرر العدو الرد، باستئجار خمسة من المسجلين خطر في مدينة القنطرة شرق، ليعبروا القناة وينسفون قضبان قطار الشرق في غرب القناة، وكانت آنذاك بلا أهمية ودون استخدام.. المهم، أن قواتنا تمكنت من القبض على ثلاثة من هؤلاء الأشقياء، بينما فر إثنان للقنطرة شرق وعاشا في حماية قوات الاحتلال.. إلى أن جاءت تعليمات مدير المخابرات الحربية بضرورة إحضار هذين المجرمين، حيين أو ميتين، ليلحقا بزملائهما الذين حوكموا بتهمة الخيانة العظمى وتم إعدامهم.. وكان رد أبطال سيناء (بل نأتي بهما أحياء).. وتمت محاكمة الأول، وانتحر الثاني في زنزانته.
لجأ جيش الاحتلال إلى تنظيم كمائن على طول سواحل البحر الأحمر في جنوب سيناء لمنع تسلل رجال قواتنا المسلحة أو مساعدة الأهالي لهم، واصطدم إحداها بأول مجموعة استطلاع عسكرية تضم رجلين من جيشنا، حاولا التسلل لجمع معلومات عن القوات الإسرائيلية وانتشارها وأسلحتها، ومعلومات عن الأهالي وأوضاعهم، ولرفع روحهم المعنوية، وأسفر الاشتباك عن إصابة أحد الضابطين وأسره، وتمكن الثاني من الوصول لإحدى القبائل الذين أخفوه بينهم، فحاصر الإسرائيليون القبيلة، ومنعوا عنهم الماء والغذاء، وأحرقوا المنازل حتى وصلوا إلى الضابط وأسروه أيضًا.. وهنا ظهر اسم الشيخ سمحان موسى مطير، شيخ قبيلة الصوالحة، الذي اخترق الحصار بقارب صيد يمتلكه أحد الأهالي ليعبر حتى أحد الشواطئ ليلًا، ويكمل سيره وحيدًا وسط الجبال، حتى أصبح عليه الصبح وسط قبيلته، يسأل أقرباءه وأهله حتى جمع المعلومات اللازمة عن الضابطين ومواقع القوات الإسرائيلية وأنواع أسلحتها ومدرعاتها، وكل ما يتعلق بأهالينا في سيناء، وعاد بغنيمته إلى السويس، حيث مكتب المخابرات الحربية.

وتولى الشيخ سمحان مهمة تجنيد رجال جنوب سيناء، واستخدامهم في جمع المعلومات وفي العمليات الفدائية أو العمل كأدلّاء للقوات الخاصة، لأنه من أكثر زعماء القبائل تقديرًا بين الأهالي، فهو ابن قاضيهم الشرعي.. تطوع الرجل للعمل الوطني بلا مقابل، ككل أهل سيناء، الذين رفضوا إغراءات المخابرات الإسرائيلية لهم بالمال والمواد الغذائية والكثير من التسهيلات، والتي لم تفلح إلا مع عدد محدود ونادر، وهؤلاء لفظتهم عائلاتهم وقبائلهم.. المهم، أن الشيخ سمحان نجح في تجنيد إثنين من أشقائه، هما عواد وعبد الله، وكانا أدلّاء وقصاصي أثر مشهودًا لهما بالكفاءة، واستطاع عواد ان يزرع لغمين في طريق دورية إسرائيلية دمرا عربتين وقتلا جنودهما، فضلًا عن جمع المعلومات بصفة دورية، واستطاع، في حرب أكتوبر، إنقاذ مجموعة من الصاعقة، قامت بمهمة ناجحة، فهاجمها طيران العدو، فآواهم عنده لثلاثة أسابيع، قبل أن يعود بهم إلى قواتنا، وقد تعرض في الحالتين للسجن وتعذيب الإسرائيليين، دون أن يعترف بشيئ.

واستمر أبطال سيناء، ومعهم الشيخ سمحان في صناعة الملاحم البطولية، خلال حرب الاستنزاف، ينصبون الكمائن للدوريات، فيقتلون عشرات الجنود ويدمرون العتاد.. حتى كان الشيخ سمحان ومعه فرد مدرب ومتخصص وراء مراقبة مطار الطور العسكري، والتمهيد لهجوم قوات الصاعقة المصرية على تشوينات الأسلحة والذخيرة حول المطار، وتدمير غرفة القيادة وبرج المراقبة وعدد من الطائرات، وقامت مجموعة إبراهيم الرفاعي بالتسلل لسفينة غارقة أمام الطور ونصبت عليها صواريخ موقوتة لضرب المطار.. ونجحت المهمة، حتى جاء الاستعداد لحرب أكتوبر، وكان للشيخ سمحان ورجاله أبلغ الأثر في مساعدة قوات الصاعقة للنزول مبكرًا في ممرات سيناء لقطع الطرق على قوات العدو، وكذا نقل الماء والمواد الغذائية التي تم إخفاؤها في مناطق مُختارة بعناية بمعرفة المخابرات الحربية، لمعاونة أية قوات استطلاع خلف خطوط العدو، إذا ما نفذ ما معها من ماء أو غذاء.. وكان الأبطال هم الأدلّاء لمجموعات الاستطلاع التي عبرت سيناء قبل الحرب بعدة أيام ترصد تحركات العدو عبر كل سيناء، حتى تحقق النصر.. هؤلاء هم أولادك يا مصر.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.