رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخطر القادم


كما كنا نفتح آفاق المعرفة بالنسبة لجماعة الإخوان، فإننا الآن يجب أن نفتح تلك الآفاق بالنسبة للتيار السلفي، فبعض مواقفهم تبدو ملتبسة أو غامضة، والبعض الآخر من هذه المواقف يبدو متناقضا بصورة تربك أفهامنا، ولغموض مواقفهم أصبحنا لا ندري هل ذلك التيار السلفي بقاعدته العريضة مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة، أم ترى أنه متأثر بفكره الثيوقراطي؟ فاختلط عنده مفهوم الدولة مع مفهوم الدين؟.
نعرف أن هناك فارقا كبيرا بين النصوص المقدسة وبين فهم المؤمنين لهذه النصوص، فالنصوص التي أنزلها الله سبحانه وتعالى مطلقة لأنها من الله المطلق، ولكننا كبشر معنيين بفهم هذه النصوص، وقد خلقنا الله بعقول نسبية لا يمكن أن تحيط بالمطلق إحاطة شاملة، وقد طلب الله من المسلمين أن يتدبروا القرآن ويتفاعلوا معه بعقولهم النسبية، لذلك فإن أفهامنا للنصوص الدينية قد تلمس جانبا من الصواب ولكنها لا يمكن أن تصل للصواب المطلق، ولأن الله سمح لنا بالاجتهاد في فهم النصوص الدينية لذلك فإن المجتهد قد يخطأ وقد يصيب، وهو مثاب في خطئه ومثاب في صوابه، وما قد يكون صوابا اليوم قد يكون غير ذلك غدا، أو غير ذلك في مكان آخر أو مع ناس آخرين، إذ أن المجتهد حين يصيب فإنه يكون مرتبطا في صوابه هذا بالزمان الذي يعيش فيه وبالمكان الذي يحتويه، فكما تتفاوت العقول في الفهم، يتفاوت الفهم الواحد على حسب معطيات كل عصر ومِصر، وقد شاءت إرادة الله أن يكون الإسلام صالحا لكل عصر، ولكل مكان، وليكون مكتسبا لهذه الصالحية فإنه اتسم بالسعة والمرونة، لذلك أصبح من المستحيل أن ينتظم المسلمون في فهم واحد للدين ونصوصه على مر العصور والأزمنة واختلاف الأمصار والأمكنة، فحين فهم الصحابة نصوص القرآن فهموه على عدة أوجه وليس على وجه واحد، لذلك تجد مقالة لعبد الله بن عباس في فهم القدر المالي الذي تقطع يد السارق بسببه، وكان رأيه مختلفا عن رأي عمر بن الخطاب، ورأي ابن عمر مختلفا عن رأي أبيه، وهكذا، تعددت الاختلافات على مدار الأجيال، بل إن موضع قطع اليد اختلفوا في فهمه وتنوعوا في تحديده، ولا يؤثر في هذا أن هناك آيات محكمات لأن معظم القرآن من المتشابهات وهذه رحمة من رب العالمين، فلو كان كل القرآن أو معظمه محكما لا مجال للاجتهاد فيه لشق هذا على الأمة ولاستحالت صلاحيته إلا لجيل واحد ومكان واحد، هو جيل السلف الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم أو عاصروا صحابته.
ومنذ زمن ظهرت على قيد الحياة طريقة لفهم الدين ونصوصه، ترفع من قدر الاتباع وتعتبر الاجتهاد بدعة، وترى أن إعمال العقل فيما اجتهد فيه صحابة رسول الله والتابعون من بعدهم هو جرأة على الصحابة الذين فهموا الدين فهما صحيحا في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن يتنزل عليه بالوحي، وكانت العبارات التي أطلقها علماء السلفيين من أهل الحديث لتأكيد هذه المعاني تؤكد أن: "من أعملوا عقولهم في فهم الدين قد ضلوا، لذلك يجب أن نفهم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ويجب ألا نفهمه بهوانا وإلا فالضلالَ الضلالَ، وإما من عاشوا مع الوحي فهم الذين فهموه فهما صحيحا ويجب أن نستقيم على فهمهم".
وبخطوات بطيئة وئيدة تسللت المدرسة السلفية إلى حياتنا المعاصرة وأصبحت ذات حظوة على البسطاء، ترفع من قيمة النقل، وتخاصم الفقه وإعمال العقل، وأصبح البعض يطلق على هذه المدرسة "مدرسة الحديث" لأن كبارها برعوا في علوم الحديث، فكان أسامة عبد العظيم أحد الرموز الأولى لهذه المدرسة في مصر في بداية السبعينيات، وخرج من بعده أبو إسحاق الحويني، ومحمد حسان، ويعقوب، وإسماعيل المقدم، وأحمد فريد، وغيرهم، وقد تأثرت هذه المدرسة برموز وهابية الفكر والمنشأ مثل الشيخ بن عثيمين، ورفيقه بن باز، ومعهما الرمز الأكبر لهذه المدرسة الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد رفعت تلك المدرسة من قيمة الحديث الشريف فجعلته موازيا للقرآن وندا له، بل وناسخا لأحكامه، ثم انطلقت لتقديس الكتب التي جمعت الأحاديث الشريفة وتقديس أصحابها، واتهام من يناقشها ويناقشهم في دينه بل وإخراجه من زمرة المسلمين.
ومنذ أكثر من عشرين عاما دارت معركة فكرية بين أحد رموز مدرسة الحديث وهو الشيخ "ناصر الدين الألباني" وبين أحد رموز مدرسة العقل والفقه الشيخ الشهيد "محمد رمضان البوطي" وكان عنوان هذه المواجهة هو: هل السلفية مذهب ديني أم أنها فترة زمنية مباركة؟ وما بين الأخذ والرد، والنقل والعقل كانت المباراة الفكرية التي سجل الشيخ البوطي رحمه الله أفكارها في كتابه الرائع الشهير "السلفية مرحلة زمنية مباركة" .
والحقيقة أن هذه المعركة الفكرية استمرت عقودا طويلة، وكان قادة هذه المعركة هما الشيخ ناصر الدين الألباني ممثلا لمدرسة الحديث من ناحية، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ممثلا لمدرسة الفقه من ناحية أخرى ـ والمدرستان يشار إليهما بمدرسة النقل ومدرسة العقل ـ أما عن الشيخ الألباني فهو ألباني ولد فيها ثم هاجر أبوه إلى دمشق وهو بعد صغير، وكان أبوه من علماء المذهب الحنفي، فقيها لا يشق له غبار، وكان حريصا على أن يسلك ابنه ناصر نفس الدرب، فتعهد ولده بالرعاية وجعله يتم حفظ القرآن، وإذ أخذ الإبن طريقه في المذهب الحنفي وجده عصيا عليه ، وكلٌ مهيئ لما خلق له، فشغب الغلام ناصر على أبيه وتركه ليعمل في مهنة إصلاح الساعات حيث لم ينتظم أبدا في مدرسة نظامية، سواء كانت متخصصة في علوم الدين أو علوم الدنيا، وحين بلغ العشرين من عمره وقع تحت يده بالصدفة وهو جالس في محل إصلاح الساعات عددٌ من مجلة المنار لصاحبها رشيد رضا، والتفت الألباني إلى الأحاديث التي أوردها رشيد رضا في مجلته فكان أن شغف بالأحاديث وطرق تخريجها، فانكب الألباني على كتب الحديث يعلم نفسه، وكانت طريقته في التعلم هي نسخ كتب الأحاديث وحفظها عن ظهر قلب، واستمر الألباني يعلم نفسه ويعتمد على الحفظ واستظهار ما حفظه، والغريب أن الألباني الذي أشاد به من أشاد لم يكن له شيخ أو أشياخ يعلمونه ويتلقى علوم الحديث عليهم، بل كان هو شيخ نفسه، ومن كان شيخ نفسه شاخ علمه، ومع ذلك بلغ الألباني شهرة عريضة رغم مئات الأخطاء التي وقع فيها وهو يتناول علم الحديث حتى أن كبار العلماء كتبوا عن أخطائه التي وقع فيها والتي لا يمكن أن يقع فيها تلميذ مبتدأ! وأصبح الألباني هو ناظر مدرسة الحديث في العصر الحديث وأحد أئمة من تسلفوا مع علماء الحركة الوهابية.
أما الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي فقد حفظ القرآن وهو في السادسة من عمره، وأدخله والده إلى المدارس النظامية في دمشق، ثم التحق بأحد المعاهد الدينية وبعد أن تخرج منه سافر إلى مصر ليلتحق بالأزهر الشريف ليحصل منه على العالمية في الشريعة الإسلامية، ليعود إلى دمشق ليعمل في جامعتها ثم يذهب لمصر مرة أخرى للحصول على الدكتوراة في الشريعة وبعد أن حصل عليها عاد إلى دمشق ليترقى في مدارج العلم حتى أصبح أحد أكبر علماء الشريعة في القرن العشرين.
هذان هما قطبا المعركة الفكرية التي دارت رحاها حول السلفية، وقد سجل البوطي بعض هذه المعركة في بعض كتبه ومنهم كتابه الشهير "السلفية مرحلة زمنية مباركة" والحقيقة أنه لم يكن غريبا على البوطي أن يطرح فكرته بسلاسة واقتدار وهو الدارس الباحث الأريب، ولم يكن من المستغرب أن يصل البوطي في بحثه إلى حقيقة غابت كثيرا عن أذهان بعضهم، تلك الحقيقة الغائبة تشير إلى أن "السلف لم يكن شيئا واحدا ولا طريقة واحدة" بل عاش الإسلام في الأعصر الأولى ــ تلك العصور التي يبتغي البعض اقتفاء آثارها ذراعا بذراع وشبرا بشبر ــ بين تشدد المتشددين وتيسير الميسرين، عاشت تلك العصور التي نطلق عليها عصور السلف بين أهل التقليد وأهل الرأي، بين من يأخذ بالعزيمة ومن يأخذ بالرخصة.
كانت السلفية إذن مرحلة زمنية ولكنها تحولت عن بعض أصحاب الأفهام المتشددة إلى مذهب ديني مبتدع وعن ذلك يقول البوطي "إن السلفية الحالية مذهب جديد مخترع في الدين، وان بنيانه المتميز، قد كونه أصحابه من طائفة من الآراء الاجتهادية في الأفكار الاعتقادية والأحكام السلوكية، انتقوها وجمعوها من مجموع آراء اجتهادية كثيرة مختلفة قال بها كثير من علماء السلف وخيرة أهل السنة والجماعة، اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة بهم، ثم حكموا بأن هذا البنيان الذي أقاموه من هذه الآراء المختارة من قبلهم، وبناء على أمزجتهم وميولاتهم، هو دون غيره البنيان الذي يضم الجماعة الإسلامية الناجية والسائرة على هدي الكتاب والسنة، وكل من تحول عنه إلى آراء واجتهادات أخرى قال بها فصيل آخر من السلف فهم مبتدعون تائهون".
ولكن المرحلة الزمنية أصبحت دينا، وفي مصر دخل هذا الدين على يد رسله، وكانت معالم هذا الدين تقوم على نشر علوم الحديث، والانتصار لمدرسة النقل، وكان للحكم مكانة في هذا الدين الجديد، ولكنهم وضعوا الحكم في منطقة خفية من أفكارهم فلم يصرحوا به، وأوهموا الدنيا أنهم أهل علم فقط ولا شأن لهم بأمور الحكم ولكن الحكم كان هو مبتغاهم الأكبر، لذلك ما أن سنحت لهم الفرصة صنعوا لأنفسهم حزبا سياسيا وأطلقوا عليه "حزب النور" ورغم أن الدولة تساهلت ولا تزال تتساهل مع هذا الحزب إلا أنه سيكون في المستقبل القريب الحزب الأخطر على الهوية المصرية، وقد لا يصدقني أحد إذا قلت إن هذا الحزب السلفي سيكون أخطر على مصر من الإخوان وداعش وباقي تنظيمات الإرهاب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.