رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قسطنطين كفافيس.. صديقى الذى علمنى الاستغناء عن الشهرة والأضواء الخادعة


أطل على الحياة، فوجد "البحر"، وأما رائعة الجمال، تجيب مطالبة، قبل أن تخطرعلى البال، وبيتا فسيحاً يرحب بوحدته، وتأملاته، حاضنا كنوز الأقدمين من العلوم والآداب.
ماذا يحتاج الإنسان–وهو في بدايته–أكثر من ذلك، ليصبح في المستقبل، فسطنطين كفافيس، ذلك الشاعر الخجول ذو المزاج الغريب، والوجدان اللامنتمي، الممزق بين شهوة الجسد وإغراء الكتب، ذو الحس المرهف – وهو لا يزال شابا – لـ مشاعر العجائز؟.
واحد من الشعراء القليلين الذين يدركون مأساة قلبى أكثر من قلبى.
شاعر يرتشف معى الضجر ومرارة الزمن، فى عالم يقتلنا فى بيوتنا، بفيروس مستورد لا نراه، يترك الجناة، ويمسك بنا نحن الضحايا.
شاعر يشاركنى خلوة صومعتى، يرتبها، ينظفها من بدايات القرن الواحد والعشرين.
كتب كفافيس: اليوم الرتيب يأتي في أعقاب يوم رتيب آخر.. الأمور ذاتها ستحدث.. ثم ستحدث من جديد.. اللحظات المتشابهة تمر بنا وتمضي.. شهر يمر ويأتي بشهر آخر.. تلك الأمور القادمة يمكن للمرء أن يخمنها.. أنها أحداث الأمس المملة.. ويضحي الغد بذلك.. كما لو لم يكن فيه من الغد شئ.. في قصيدته "شموع"، يكشف كفافيس عن علاقته المربكة المريبة بالزمن: أيام الغد تقف أمامنا.. مثل صف من الشموع الصغيرة الموقدة.. شموع صغيرة ذهبية حارة.. ومفعمة بالحياة الأيام الماضيات تبقى في الخلف خطا.. حزينا من الشموع المطفأة.. وأقربها مازال الدخان ينبعث منها.. شموع باردة.. ذائبة.. محنية.. لاأريد أن أراهـا.. فمرآها يبعث الشجن في نفسي.. ويشقيني أن أذكر نورها الأول فأنظر قدما إلى شموعي الموقدة.. لا أريد أن ألتفت ورائي.. خشية أن أبصرها فيتملكنى الرعب.. وأنا أرى الخط المظلم يمعن في الطول.. والشموع المطفأة سرعان ما تتزايد
إن وصف كفافيس للشموع المطفأة حديثا، بأنها باردة، ذائبة، ومحنية وبهذا الترتيب المتتالي، يلخص في بلاغة شديدة، وأسى، أشد، إحساسه المرهف تجاه دورة الزمن. فهي أولاً، باردة، والبرودة، معناها أنها غير مبالية بمصير الإنسان ومشاعره.
وهي ذائبة.
والذوبان، يوحي بأن هذا هو مصيرها الطبيعي المنتظر، غير قابل للتبدل أو الرجوع.
وهي محنية.
والانحناء يقول، أنها هي الأخرى مستسلمة، لا تملك أمام القدر شيئاً.
فهي كالإنسان ضحية مثله، وإن اعتبرها الجانية. وقد نجد في الانحناء أيضاً، معنا من معاني التعاطف مع الإنسان.
حتى في لحظات الحب، لم يكن كفافيس في مأمن من حصار الزمن، ومرارة الإحساس بالفقدان.
فها هو يقول:
ضاع الحب.. والآن على شفتي كل غريب.. يبحث عن شفتي ذلك الحبيب.. وفي كل حضن جديد.. تخدع النفس نفسها بأنها.. في أحضان الحبيب الأول
كان لكفافيس طريقته الخاصة في تجسيد موقفه العدائي من الشهرة.
ألاوهي – ببساطة – عدم السعي إلى نشر أشعاره.
فكان يكتب قصائده، ويكتفي بأن يوزعها على أصدقائه. فالشهرة لديه وهم، ومفسدة، وتضييع للوقت.
وهو في هذا، مارس الإبداع أو كتابة الشعر، باعتبارها مغامرة مدهشة، ودربا مجهولاً، من أجل تلك المهمة المضنية، ألاوهي أن يعرف نفسه، لا أن يعرفه الآخرون.
أليس هذا، هو الجزء الأصيل، في أي عمل أدبي أو فني؟ وأليست معرفة النفس، ما يهرب منه البشر؟؟.
ويبدو أن كفافيس، قد كره كل أنواع الأضواء، سواء تلك من صنع المصابيح، أو تلك من صنع البشر.
لقد أحب الأضواء الخافتة طوال حياته، وعشق ضوء الشموع الهادئ.
لقد أثارت علاقة الفنان بالشهرة – ومازالت – الكثير من الجدل، نعم، فالفنان الحقيقي تملؤه الموهبة الأصلية، فلا تعنيه الشهرة لأنها لن تزيد من قيمته.
ولكن من ناحية أخرى، كلما عظمت موهبة الفنان، كلما أراد التأثير والتغيير.
فهل هما ممكنان بدون الشهرة ؟.
حقق كفافيس إلى درجة مدهشة، التلاحم الحميم بين ذاته، وبين قصائده، أن تكون"الأنا"هي"موضوع"الكاتب، بحيث تصبح الكتابة هي ذات الكاتب.
فهي – أي الكتابة – عناق حميم جمالي بين كل ما، يعبر عن طريقة الكاتب في تذوق العالم. ولأنها عناق ، فإن هناك علاقة "لذة" و"سعادة" و"انتشاء"، تربط الأديب بأدبه. وهذا يجعل الكتابة فعل اشتياق، وفعل تحرر. اشتياق للذات، وتحرر لها.
من هذا المنطلق، أتوج كفافيس، شاعراً وجودياً حقاً. حيث نستشف من بين سطوره مقولة كيركجارد – أبو الوجودية – 1813 - 1855 "الحقيقة هي الذات".
في كل قصائد كافافيس بدون استثناء، لا نملك الا الإحساس، بأن ما تسمى حقائق العالم الخارجي، تصبح عديمة الجدوى، إذا لم تبدأ أو تقترن بمعرفة الإنسان لذاته.
وأن أقوى الحقائق العلمية أو التاريخية ، لا تكتسب أهميتها أو استمراريتها، إلا من خلال "ذات" تؤمن بها وتمارسها وتدافع عنها.
وهاتان فكرتان أساسيتان في الفلسفة الوجودية.
وإذا كانت الوجودية، هي معرفة ومواجهة فوضى وعبثية الحياة، فإن كفافيس وجودي النزعة، حاول بالشعر، أن يخفف من فوضى وعبثية الحياة.
اختار كفافيس حياة الهدوء والعزلة.
ليس فقط لأن الإبداع، يحتاج فاصلا بين الذات المبدعة وما خارجها.
ولكن لأنه أيضاً اعتقد، أن الحياة الكريمة للإنسان، تستلزم الابتعاد عن الآخرين.
في قصيدته " قدر إمكانك "، يرسم بالكلمات، لوحة، ترشد الانسان الحائر، على مدى الأزمنة، ويحقق تناغماً بين ما يعيشه ويمارسه ويؤمن به، وبين ما، يريد للآخرين أن يعيشوه مثله.
انها القصيدة التى ترسم حياتى، أنا أيضا، وتنسجم مع طباعى ومزاجى وفلسفتى، وتشكل بالضبط أفكارى عن العلاقات بالناس.
فأنا معتكفة فى صومعة قصائدى وتأملاتى، مكتفية وسعيدة بها، وبسببها يلومنى الناس.
لكننى لا أهتم.
يقول كافافيس: لو لم يكن بإمكانك أن تصنع حياتك كما تريد.. فعلى الأقل حاول ما استطعت أن تفعل هذا ....
لا ترخص من شأنها بكثرة الاحتكاك بالناس.. وبالإفراط في حركاتك وكلماتك.. لا تحط من قدرها بالطواف بها هنا وهناك.. معرضاَ إياها لزحمة الروابط والمقابلات
التي تزخر بها حماقات كل يوم.. حتى تمسى حياتك ضيفا ثقيلا عليك.. الشعراء لهم عجائبهم، المحيرة، لا نفهمها، ولا يحلها مرور الزمن.
ومن عجائب كفافيس، أنه ميلاده ورحيله، كانا فى اليوم نفسه من شهر أبريل، حيث ولد فى 29 أبريل 1863، ورحل فى 29 أبريل 1933.
الشعراء لهم أيضا تناقضاتهم غير المنسجمة مع طباعهم ومزاجهم.
كفافيس ولد ورحل فى الربيع، وكل أفكاره، ومشاعره، وقصائده، لا تتناغم الا مع الخريف.
منْ يهتم؟.
تعلمت أن عجائب وتناقضات، الحياة، ربما هى، أو غالبا، هى.. ما تصنع أجمل الشِعر، وتهب لنا أبدع الشعراء.