رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دراماتورجي " المصراوية "


منذ عشر سنوات وبالتحديد يوم 28 مايو ( في مثل شهرنا الحالي ) ودعت مصر والأمة العربية أحد أهم رواد الإبداع الدرامى والحكاء المصرى والتاريخى، وصاحب أروع وأخلد رحلة مع دراما الشعب المصرى.. خاضها وعاشها وأخرجها على الورق شخوصا حية شديدة الصدق والدلالة ولازالت تعيش بيننا بطول وعرض مصر المحروسة الكاتب والروائى التليفزيونى والمسرحى والسينمائى أسامة أنور عكاشة ، وذلك فى إطار مشروع فنى وطنى مخلص قدمه عبر 40 عاماً.
صدرت لأسامة أول مجموعة قصصية عام 1967 وتحولت إحدى قصصها على يد سليمان فياض إلى سهرة درامية، وعندما عُرضت على شاشة التليفزيون لاقت نجاحاً هائلاً.. فكانت الالتفاتة الجادة والاتجاه نحو الدراما المرئية عبر مقارنة عقدها كاتبنا الكبير بين رد فعل العمل المقروء والعمل المرئى فى الشارع والحارة المصرية الذى يرى أنه يكتب لهم فى الأساس.. وتتابعت الأعمال وتوالت النجاحات بداية من الشهد والدموع إلى ملاحم ليالى الحلمية وزيزينيا وأرابيسك وحتى ملحمته الأكبر "المصراوية " التى تم عرض الأجزاء الأولى منها.. دراما ناعمة سرعان ما سرت فى وجدان الإنسان المصرى لا تتجاهل آلامه و تحيي أحلامه و تسرد حكاويه وتغني في أفراحه و تشاطره أتراحه..
ولأن حال الإبداع الدرامي (( بعافية شوية )) ـ فإننا نفتقد إبداعات "عكاشة " ، وكنت قد التقيته قبل الرحيل بأيام قليلة لأجري معه حوارًا حمدت الله أن سعد به وأثنى على موضوعات التحاور وأمانة النقل عنه .. ولعلها فرصة للتذكير بأخر ما رغب الدراماتورجي الأشهر وصنيعي الأرابيسك الشرقي المصري أن يقوله منذ حقبة من الزمان ..
عندما سألته في افتتاحية حوارنا حول رؤيته لحال الإبداع فى مصر المحروسة ، قال " على مستوى الإبداع الأدبى والفنى، الأمر ليس له علاقة بالوضع السياسى أيا كان إيجابياً أو سلبياً،فالمبدع يبدع معارضاً أو مشايعاً أياً كان موقفه السياسى ولدينا مثال رائع فى الراحل العظيم نجيب محفوظ فقد ظلت كتاباته عبر أربعة عصور من عهد الملكية وحتى عهد عبد الناصر والسادات وعهدنا الحالى، ولم يثنه عن إبداعه وطرح فكره أى ظروف تاريخى أو متغير ما طرأ على البلاد، المجيدون يبدعون ويكملون رحلات إبداعهم فى كل الظروف.. لكن يمكن القول أنه ـ وللأسف ـ تزايدت فى الفترة الأخيرة أشكال الإنتاج الردئ حيث النماذج الفنية الرديئة غالبة والمزاج العام للمتلقى صار مزاجاً ـ للسف ـ متخلفاً وبشكل خاص فى مجال الفنون الغنائية وبعض النماذج السينمائية والتليفزيونية.. هناك قلة من المبدعين الجادين.. وأرى أن الظرف الأقتصادىوالاجتماعى الضاغط ساهم فى أعراض تلك الأمراض فإذا كان المرض يعلن عن وجوده فى المرضى بأعراض ارتفاع درجة الحرارة أو ظهور بثور وطفح جلدى، فإن الفنون الرديئة هى بمثابة الطفح الجلدى الذى شوه جسد المريض والوطن.." ..
وحول مدى اتفاق كاتبنا الكبير مع مقولة " لم يعد من خيار أمامنا سوى أن ندفن موتانا الأيديولوجيين ".. ابتسم وكرر عرض المقولة واستطرد " كلام يتكرر في الآونة الأخيرة و خطاب أعتقد أن سببه الرئيسى وجود رغبة فى التمرد على الموضوعات القديمة والقوانين التى عملنا بمقتضاها فترة طويلة وكنا نظنها هى الدستور، وهذا كلام يمكن قبوله فى إطار التمرد والبحث عن التطوير والتحديث والتغيير، لكنه أمر قابل أيضًا للنقاش، فإن القول بدفن موتانا الأيديولوجيين به نوع من التجنى إلى حد ما على الحقيقة ، وصاحب المقولة يتناقض مع نفسه عندما يقول استفدنا من الأيديولوجيات وعشنا عليها فهو يقر بأنها دخلت فى تكويننا وصارت جزءًا منا ، فالأيديولوجيات لا تموت لكن يمكن أن تموت وتتغير.. إذن هذه مقولة لا يمكن الاتفاق معها فالماركسية على سبيل المثال ورغم سقوطها يجب أن نعترف بأنها لم تكن نُظمًا ماركسية بالمعنى الكامل للنظرية ، بل كانت أقرب إلى رأسمالية الدولة منها إلى الماركسية ، وحتى الفكر الماركسى لم يمت ومازال موجودًا ويُعد أحد روافد الفكر الإنسانى فإذا كنا فى بلد ما نتمرد على فكرة أو نظرية فهذا من حقنا حتى لو قمنا بثورة عليها ، لكن يجب أن نظل فى حالة اعتراف أن الذى أثور عليه هو جزء من أنفسنا وتكويننا وكياننا ، تعاملنا معه وتفاعلنا مع معطياته..
ولعلي في مقال قادم على صفحات جريدتنا الغراء "الدستور " نعرض لأجزاء أخرى من الحوار المطول مع الكاتب والمفكر أسامة أنور عكاشة الذي استطاع فيه أن يقدم قراءة متفردة للواقع المصرى، وواقع الدراما المصرية ، فهو المبدع الذى قدم للمشاهد المصرى والعربى واقعاً موازياً وخاصاً جداً فى غير خداع أو كذب أو تخدير لقبول واقع قد لا يرضاه، بل للتحريض على التغيير الإيجابي والوطني .