رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمهات من الحياة إلى الشاشة


أعظم شخصية يمكن أن تشاهدها فى الدراما وتتفاعل معها وتعجب بها هى شخصية الأم، ولا أظن أن كُتّاب الدراما كانوا يجدون مشقة فى رسم تلك الشخصية، فأمهاتنا يعشن معنا وفى قلوبنا، يؤثرن فينا ويسعدننا، حينما كنا صغارًا كنا نرتمى فى أحضانهن، فحضن الأم هو الملاذ والملجأ والحماية، ونظل نرتمى فى أحضانهن ونحن كبار، فإذا جاء الموت الذى ليس منه بُد، وانتقلت الأمهات إلى القبور افتقدناهن، وأخذنا نستحضرهن فى أخيلتنا، وحينما نَرَاهُن فى الأحلام نفرح ونحكى تلك الرؤى للأهل والأصدقاء ونحن مستبشرين، أو نسرع للتبرع بالصدقات للفقراء لكى يصل الثواب إليهن، أو يَختم المسلم القرآن ويهب ثوابه لأمه، والقرآن حياة للقلوب، وينير المسيحى شمعات فى الكنيسة رحمة ونورًا على أمه، والشمعة مثل الأم، تحترق وتذوب لكى تعطى نورًا للآخرين
الآن أقول لك خفف عن نفسك أيها الإنسان، فأنت لا تعلم أن أمهاتنا اللائى فارقن الحياة لا يحتجن إلى هذا الثواب، بل نحن الذين فى أشد الحاجة إليه، هن يأتين لنا فى المنام حتى نُصلح أنفسنا فى الحياة، فتُهيئ لنا نفوسنا أنهن فى حاجة إلى أن نمد لهن أيادينا بالخير، فاخرج يا رجل من غرورك، فأمك هى التى تمد لك يدها بالخير حتى وهى فى قبرها.
هذه هى الأم، وسنعجز عن الكلام عنها وعن تأثيرها فى حياتنا، ولكن كيف رسمت الدراما صورتها؟ معظم الأمهات فى السينما والتليفزيون هنَّ من الطيبات الصالحات، وقد اشتهر بالقيام بدور الأم مجموعة من الفنانات لم تنجب السينما مثلهن أبدًا، فيا لطيبة فردوس محمد وعزيزة حلمى وأمينة رزق وآمال زايد، ثم كريمة مختار وهدى سلطان، ولا ننسى شادية وهى تؤدى دور الأم حينما كانت شابة، ثم برعت فى هذا الدور وهى كبيرة.. ولكن بجوار الأمهات الطيبات كانت هناك أمهات من نمط آخر، مثل الأم الأرستقراطية أو الشريرة، ونجح فى أداء هذا النمط زوزو ماضى وميمى شكيب وزوزو شكيب وعلوية جميل.
أنت وأنا سنرى أمنا الطيبة فى فردوس محمد، فتلك الفنانة التى يقال إنها لم تنجب أصلًا، ولم تمارس الأمومة فى الحقيقة، مارستها فى السينما، فكانت هى الأم الطيبة المفرطة فى الحنان لابنها الحالم الرومانسى على، «على يا ويكا»، الذى أصبح ضابطًا فى الجيش، وابنها الآخر حسين الذى تقفز الشقاوة من عينيه وقد أصبح ضابطًا فى البوليس، وسترى فرحة الأم فى نظرة فردوس محمد لابنها «على» بعد أن عاد إليها متخرجًا فى كليته الحربية، فهى تشب لتقبله على وجنتيه وتحتضنه بعفوية الأم، ثم تتذكر الأيام الخوالى عندما كان ابنها هذا صغيرًا لا يكاد يقف، فكانت تحمله بذراعيها وتضمه فى حضنها، الآن كبر الطفل، وأصبح رجلًا فارع الطول، فتقول له فردوس محمد بصوت يخلط بين الفرحة والفخر، فيخرج وفيه رنة ملحوظة لأن بكاء السعادة أعطاه رونقًا خاصًا: «كبرت يا على وما بقتش طايلة أبوسك، إلهى يجعلك عالى دايمًا»، وقد نجحت فردوس محمد فى جملتها هذه فى أن تجمع فيها كل مشاعر الأمومة، فالجملة يكتبها المؤلف، ولكن ينطقها الفنان، وليس كل نطق نطقًا.
وقد كان صوت فردوس محمد هو الترجمة الحقيقية لقدراتها الفنية العالية، فعندما قامت بدور أم عبدالحليم حافظ فى فيلم «حكاية حب»، فكانت هى الأم الضريرة التى يخفق قلبها بالخوف على ابنها الذى كان على وشك السفر للعلاج فى الخارج، وقد أخفى عليها خبر مرضه، فيجلس على مسند الكرسى الذى تجلس هى عليه ويودعها، فيختنق صوتها بالدموع، وأحسب أنه اختنق فعلًا لا تمثيلًا، فقد كانت صادقة كأروع ما يكون الصدق، وحينما أرادت أن تطمئن على ابنها وهى تقول له: «دى أول مرة تسافر وتسيبنى»، ثم تتحسس ملابسه فتجد قميصه خفيفًا، وهو الذى سيسافر إلى أوروبا الباردة، فلا تنسى أن تسأله: «أخدت معاك هدوم تقيلة»، كان يمكن أن تسأله دون أن تتحسس ملابسه، ولكن المشهد لم يكن سيكتمل حينئذ، فهى تحسسته لتسأله، لنستشعر من تلك اللمسة أن هذا الخاطر داهمها قبل أن تلمس ملابسه، ثم يشدها الحنين إليه وهو الذى سيفارقها حالًا، فترجوه أن يجلس بجوارها قليلًا لتستزيد منه، إلى أن تقول له: «بحفظ الله يا حبيبى»، وحينما يستدير تناديه بصوت مرتفع فيه لهفة وشوق للمسافر الذى لم يغادرها بعد: «أحمد»، ثم تدعو الله ليحفظه، وقد كان نداؤها له هو أعظم نداء فى تاريخ السينما، فقد كان مشحونًا بعاطفة غريبة لا يستطيع الجماد أن يظل جمادًا على حاله وهو يسمعه، بل أظنه سيتفتت، وتسمع الأم بعد ذلك من الراديو أن ابنها يجرى عملية فى الخارج، والمذيع يدعو له، وهى الأم العاجزة الضريرة التى لا تملك من أمرها شيئًا.. يا لعظمتك يا أم السينما المصرية، فقد كانت فردوس محمد هى أمى فعلًا، وكانت هى الصورة الحية لكل أم طيبة فى الحياة، فإذا بكوب الشاى الذى تشربه يرتجف فى يديها ويكاد يقع، وكأن هذا الارتجاف كان ترجمة للرجفة التى أصابت قلبها، ثم لم تجد شيئًا تفعله إلا أن صاحت: «ابنى»، وكانت كلمة ابنى هنا تحمل كل مشاعر الأمومة والرجاء، ولا أظننى سمعت أمًا فى السينما تقول «ابنى» كما قالتها فردوس محمد، بكلمة واحدة جسّدت تلك الفنانة المذهلة كل معانى الأمومة.
ولو تركت نفسى لأكتب عن أمومة فردوس محمد لاحتاج الأمر منى إلى كتاب كامل، فهى الأم التلقائية الطيبة المفرطة فى الحنان، فهى «ستيتة» أم شكرى سرحان فى «شباب امرأة»، ورأيناها وهى تسحب «جاموستها» لتبيعها لكى توفر لابنها نفقات التعليم فى القاهرة، والجاموسة هى كل الذى تمتلكه، ولو تعلمون قيمة تلك البهيمة عند الفلاح فى تلك الفترة، كانت هى مورد رزقه، والأم التى تحب أن ترى ابنها فى أعلى مقام تبيع مورد رزقها، ولو رأيت حركة فردوس محمد المتخاذلة وهى تسحب الجاموسة ثم تسلمها للمشترى، ثم تودعها وتربت على ظهرها، لأيقنت أنها فلاحة ابنة فلاح عاشت سنوات البؤس فى الريف، رغم أنها فى الحقيقة ابنة المدينة التى نشأت فى حى المغربلين.. ثم تلك العظمة الأمومية التى قدمتها تلك الأم العجيبة فى مشهدها وهى تودع ابنها وتقول له: «لو لقيت حد يشترى روحى كنت أبيعها وأديهالك يا إمام»، وأرجوك لا تقف عند حد تلك الجملة، ولكن اسمع السعادة الكبيرة التى كانت فى صوت الأم «ستيتة» وهى تقول تلك الجملة، لتعرف أنها قالتها بهذه السعادة وهى تخفى أساها لتخفف عن ابنها حزنه لبيع الجاموسة مصدر رزقهم، وما كانت أم من أمهات الدراما لتستطيع أن تجارى فردوس محمد فى تلك العظمة وهذا الإبداع.
ونذهب إلى أمنا الأخرى أمينة رزق، تلك الأم التى ظهرت دائمًا أو فى الغالب الأعم بصورة الأم المكافحة، التى تنكر ذاتها من أجل أبنائها، هى الأم المظلومة دائمًا، المغلوبة على أمرها، قليلة الحيلة، التى تعانى دائمًا من شظف العيش، هى أم آمنة وهنادى فى «دعاء الكروان»، هى التى تقبل الظلم ولا تستطيع أن تقاومه، فهى فى قمة الضعف أمام شقيقها، تخفى حزنها كله فى قلبها عندما يقتل الخال ابنتها، لأن المهندس الذى تعمل عنده أغواها للخطيئة، وعندما تسألها آمنة: «فين هنادى يا اماى»، ترد وهى مخزية: «هذا أمر الله يا بنيتى»، وعندما دعت ابنتها عليها لم تحر الأم جوابًا ونكست رأسها.
نذهب الآن إلى الطيبة التى تجسدت فى صورة إنسانة، إلى الفنانة الأم آمال زايد، التى كانت فى فيلم «بين القصرين» زوجة السيد أحمد عبدالجواد، وأم أولاده الطيبة التى لا تستطيع أن تتحرك فى حياتها إلا بأمر زوجها، وهذا النمط من أنماط الأمهات القديمات، ولأن الكاتب هو نجيب محفوظ، والمخرج هو حسن الإمام، لذلك كانت آمال زايد هى الأبرع فى أداء دور الأم الطيبة المكسورة الخائفة التى يصيبها الرعب من زوجها المستبد صاحب الجبروت.
ولكن عزيزة حلمى هى الأم الطيبة، وقد ساعدها على ذلك ملامح الطيبة المحفورة حفرًا فى وجهها، وكأن الله خلقها لتكون طيبة، رأيناها أمًا طيبة كثيرًا، ثم رأيناها أمًا حزينة منكسرة فى مسلسل «دموع فى عيون وقحة» وهى تغادر بيتها لتكون من المهجّرين، وتقول لابنها جمعة: «خلاص هانسيب بيتنا يا جمعة»، فقد كانت لا تعرف من دنياها إلا بيتها، وسمعنا صوت عزيزة حلمى عبر الإذاعة فى مسلسل «عائلة مرزوق أفندى»، الذى كان يأتى من ضمن فقرات برنامج «ربات البيوت» صباح كل يوم، وكانت تمثل أيضًا دور الأم الطيبة التى تجمع الأبناء وتساعدهم فى حل مشاكلهم، ثم شاهدناها وهى الأم خفيفة الظل المبتهجة فى فيلم «ليالى الحب» مع عبدالحليم حافظ، وكانت فى هذا الفيلم أمًا للممثلة آمال فريد وزوجة لسراج منير، وكانت تؤدى دور الأم التى تحب الشعر ولكنها لا تعرف فيه شيئًا، وتتكلم بالفصحى وتخلط بينها وبين العامية، وكانت هذه أول مرة، بل وأظنها الأخيرة، التى كانت فيها عزيزة حلمى أمًا تبعث الكوميديا والضحكات، ونجحت فى هذا نجاحًا كبيرًا، ولك أن تضحك فى آخر مشاهدها فى الفيلم وسراج منير يقول لها ولباقى أسرتها وهم فى طريقهم للسباحة فى حمام السباحة بالنادى: «هيا بنا هيا بنا لنستحمى كلنا»، فترد عليه عزيزة حلمى: «إنت بوظت الشعر خالص»، فيقول لها سراج منير: «يا ستى إنتى مبوظاه من خمسين سنة ومحدش قالك حاجة».
وإذا كانت هذه بعض نماذج للأمهات الطيبات، ومعهن كريمة مختار التى لا يمكن أن ننساها أبدًا، وهى آخر العقد الفريد من الأمهات الطيبات الرائعات، إلا أن الدراما أيضًا أظهرت لنا بعض الأمهات الشريرات أو العابثات المستهترات، وكانت أشهرهن ميمى شكيب وزوزو شكيب وعلوية جميل، وقد رأينا تلك الأم المستهترة العابثة فى فيلم «لحن حبى» مع فريد الأطرش وصباح، وكانت فيه زوزو شكيب هى الأم لصباح والزوجة لحسين رياض، ولكنها كانت تخون زوجها، ومع أن عملى فى المحاماة أظهر لى هذا النمط الفاسد من الأمهات اللائى أنستهن غرائزهن قيمة الأمومة، إلا أن أى أم من الأمهات اللائى قمن بهذا الدور فى السينما لم يقنعننى أبدًا، وقد لا يكون العيب فى الفنانات اللائى قمن بهذه الأدوار، ولكنى ألقى باللائمة على الكُتّاب الذين قدموا هذا النمط دون أن يخضعوه لدراسة درامية كافية، فالأمومة غريزة فطر الله عليها النساء، وكل أم تتخلى عن فطرتها إنما تفعل ذلك لأسباب نفسية، أو لأمراض عقلية، ثم إن التقلبات التى تصيب نفسيات الأمهات الشريرات تأتى أحيانًا بغتة بلا مقدمات كافية، فالفنانة علوية جميل مثلًا من الأمهات الشريرات، وقفت علوية جميل فى كثير من أفلامها ضد زواج ابنها من فتاة بسيطة أو فقيرة، ثم فجأة ولأسباب واهية تنقلب نفسيتها وتتحول إلى أم طيبة دون أن تكون المقدمات الدرامية كافية لإحداث هذا الانقلاب، هذا عيب المؤلف ولم يكن أبدًا عيب الفنانة.