رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انسحاب القوات الأمريكية وعودة «داعش» للعراق!!


الجيش الأمريكى اضطر أخيراً للانسحاب من بعض قواعده فى العراق.. «القائم» و«الحبانية» بمحافظة الأنبار، الجيارة «كيو ويست» جنوب الموصل، و«القصور الرئاسية» شمالها، «كركوك» شمال العراق، و«أبوغريب» و«التاجى» فى العاصمة بغداد.. الانسحاب فرضته ضرورات أمنية، تتعلق بسلامة العسكريين الأمريكيين؛ لأن قواعدهم تعرضت لقرابة 30 هجومًا صاروخيًا من جانب ميليشيات «الحشد الشعبى» الموالية لإيران، تلقوا خلالها قرابة 160 صاروخًا منذ أكتوبر 2019.. إجمالى عدد العسكريين الأمريكيين بالعراق 5200، انتشارهم فى قواعد متعددة يعرضهم للاستهداف، ويحول دون توفير أنظمة «باتريوت» للدفاع الصاروخى لكل منها، ناهيك عن تعارضه مع الجهود المبذولة لمنع انتشار «كورونا» داخل المعسكرات.

الانسحاب بدأ بالمعسكرات الهشة أمنيًا.. «القائم» على الحدود العراقية السورية كانت أول مكان تحتله «داعش» 2014، وآخر منطقة استعادها الجيش نوفمبر 2017.. تقع على الطريق البرى الواصل بين إيران وسوريا، ما دفع ميليشيات «الحشد» للتمركز فى محيطها، واحتلال الطرق التى يسلكها الأمريكيون فى طريقهم للقاعدة، مما يعرضهم لمخاطر جدية، ناهيك عن تراجع أهمية القاعدة بالنسبة لهم، بعد هزيمة «داعش» شمال شرق سوريا..
قاعدتا «الجيارة» و«كركوك» تعرضتا لهجمات صاروخية عديدة خلال الشهور السابقة.. القوات الأمريكية بالعراق جار تجميعها مبدئيًا فى ثلاث قواعد كبرى، هى قاعدة «عين الأسد» فى الأنبار، وقاعدة «حرير» في أربيل شمال العراق، وقاعدة «بلد» بمحافظة صلاح الدين.. وجار تزويد هذه القواعد بمنظومات صواريخ «باتريوت» الدفاعية، وتشييد أبراج مراقبة وحواجز دفاعية جديدة.

العملية هكذا ل اتبدو انسحابًا، وإنما إعادة تموضع للقوات الأمريكية، لتوفير ظروف دفاعية وأمنية أفضل، غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مدعاة لتغافل الضغوط التى ترتبت على اغتيال قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس، وأبومهدي المهندس، رئيس هيئة الحشد الشعبى، بغارة أمريكية قرب مطار بغداد الدولي 3 يناير الماضي، ردًا على هجمات «الحشد» ضد القوات الأمريكية فى العراق، والتى أعقبها تهديد الأحزاب الشيعية لأعضاء البرلمان، لإقرار قانون يفرض على الحكومة إنهاء تواجد القوات الأجنبية فى البلاد 5 يناير، بالإضافة إلى تهديد قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق التابعة لإيران، باستهداف مباشر لتلك القوات.

والحقيقة أن تصاعد التوتر كان يفرض على واشنطن قدرًا من المواءمة، إلا أنها استمرت فى استهداف معسكرات «حزب الله» ومراكز القيادة ومخازن الأسلحة التابعة له، ليس ردًا على عمليات القصف التى تعرضت لها قواعدها وسفارتها فقط، وإنما بهدف إظهار العراق بصورة المحتل من قبل إيران، وإبراز الطبيعة الإرهابية للحزب، مما يبرر سعيها للقضاء على قدراته العسكرية والسياسية، باعتباره أخطر مصادر التهديد فى الشرق الأوسط بحكم ارتباطه بإيران، ورفضه الانخراط رسميًا بين صفوف القوات الأمنية العراقية، ونشاطه الهدام الممتد من لبنان وسوريا والعراق حتى اليمن وقطاع غزة والخليج.. والواقع أن هناك تنسيقًا كاملًا بين أمريكا وإسرائيل فى الهجمات، بحيث يصعب تحديد أيهما المسئول عنها، مما يفسر إقدام الحكومة العراقية على تقديم شكوى للأمم المتحدة ومجلس الأمن منتصف مارس، ضد الانتهاكات الأمريكية لسيادتها!!.

ومن ناحية أخرى، فإن منطق المصلحة المتبادلة يفرض على العراق تجنب التمادى فى المطالبة بخروج القوات الأمريكية، فلا يوجد إجماع وطنى على ذلك، لأن السنة والأكراد متحمسون لبقائها، ويرفضان مطالب الشيعة بخروجها.. كما أن الاعتبارات المادية تفرض تجنب إثارة الموضوع، لأن أمريكا هددت بوقف المساعدات العسكرية والاقتصادية للعراق التى تبلغ 3.7 مليار دولار، وتجميد حساباته فى بنك الاحتياطى الفيدرالي في نيويورك والتى تقدر بـ35 مليار دولار، حتى يتم سداد قيمة المنشآت العسكرية باهظة التكلفة، والتطور التكنولوجى، التى أنشأتها أمريكا، بخلاف إلغاء كل الاستثناءات الممنوحة لبغداد فيما يتعلق باستيراد مصادر الطاقة ومياه الشرب من إيران، وهى مسألة بالغة الحيوية ولا غنى عنها.. والأخطر والأهم، يتعلق بعجز العراق منفردًا عن مواجهة التهديد الذى لا تزال تمثله «داعش» حتى الآن.

أمريكا انسحبت من العراق 2011، لكنها لم تلبث إن عادت بمقتضى اتفاق التعاون الاستراتيجى 2014، بعد اجتياج داعش لثلث أراضيه.. لكن انسحابها حاليًا يمثل هزيمة استراتيجية فى مواجهة إيران، ما يسمح لوكلائها بالمزيد من التمدد فى المنطقة، فضلاً عن خسارتها المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بمتابعة نشاط الخلايا الإرهابية، والميليشيات المسلحة بالمنطقة، لكن ذلك لا يقارن بخسائر العراق.. استراتيجية الحرب ضد «داعش»، اعتمدت على طرد مقاتليه من المناطق التي سيطروا عليها، دون ملاحقتها، مما سمح لهم بالانتقال لمناطق أخرى، والتحول إلى خلايا نائمة تضاف لنظيرتها من بقايا البعث وجيش صدام.. وتعتبر مشاكل أهالي المدن المحررة بيئة خصبة لنجاح التنظيم، إذ بلغ عدد العائدين من النزوح 4.6 مليون شخص، فى غياب استراتيجية وطنية لإعادة الإعمار، أو توفير فرص عمل، كما لا يزال هناك 1.39 مليون نازح يمنعهم «الحشد» من العودة لديارهم، وتعاملهم كإرهابيين، إلى جانب وجود آلاف من شباب هذه المناطق في السجون والمعتقلات دون أسباب معلنة أو تحقيق، وتلك بيئة مثالية لعودة النشاط الإرهابى.. إذن لا الجيش حقق نصرًا حاسمًا، ولا «داعش» لقى هزيمة نهائية، والأمر رهن بتغير الظروف، مما يسمح للتنظيم بالعودة للمواجهة.

الانسحاب الأمريكي أدى إلى نوع من الإرباك للقوات العراقية، فقد كانت هناك مناطق واسعة تتسم بالوعورة تقع بين ديالى وصلاح الدين وكركوك، تتم السيطرة عليها عبر جهد استخباراتي تشترك فيه القدرات التقنية الأمريكية المتقدمة مع خبرات عناصرها المهنية، هذه المناطق أضحت مخفية بشكل كامل عن أجهزة الأمن العراقية، مما سمح لـ«داعش» بإعادة تنظيم خلاياها، التى تقدر بقرابة 5000 عنصر ينطلقون من تلك المناطق لتنفيذ عملياتهم.. ومن ناحية أخرى فإن الأزمة منعت العراقيين من طلب المساعدة بغارات جوية ضد «داعش» بعد مقتل سليمانى، ما أتاح الفرصة للخلايا الإرهابية فى التصرف بحرية، لأن مناطق انتشارها تحتاج إلى دعم جوي ولوجيستي مستمر، لا يملكه العراق.

يضاف إلى ذلك أن وزارة الدفاع العراقية منحت إجازة لنصف أفرادها ضمن إجراءات احتواء وباء «كورونا»، كما سحبت معظم عناصرها من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية لفرض حظر التجوال داخل المدن، وهو ما شجع «داعش» على تكثيف نشاطاتها في مدن شمال ووسط وغرب العراق، مع التركيز على محافظتى ديالى وكركوك، باعتبار الأولى معبرًا لمراكز إنتاج الطاقة، والثانية مصدرًا لها.. خلية الإعلام الأمنى أكدت مقتل 170 من أفراد الأمن والمدنيين على يد مسلحي «داعش» منذ مطلع العام الجاري 2020، وعمليات الرصد أكدت وقوع أكثر من 100 هجوم منذ أول أبريل، أغلب ضحاياها من قوات الحشد العشائري السنية الموالية للدولة في الأنبار وصلاح الدين، وكذا عناصر «الحشد» الشيعية المرابطة في منطقة «جرف الصخر» بمحافظة بابل، التي تعد خاصرة العاصمة بغداد من الجنوب.. الموقف فى العراق بات يخيم عليه شبح 2014، عندما وقع الزحف الداعشى الكبير.. ما اضطر بغداد إلى الإلحاح على الاستعانة بسلاح جو التحالف الدولي يوم 14 أبريل، للمرة الأولى منذ اغتيال سليمانى، لأن قوة كبيرة من القطاعات العسكرية وقعت فى كمين محكم نصبته «داعش».

وسط هذه الظروف التى تبدو وكأنها اصطُنِعَت لحساب واشنطن، تبدأ يومي 10-11 يونيو المقبل المفاوضات بين العراق والولايات المتحدة لبدء حوار استراتيجي، يستهدف تحديد مستقبل العلاقات بين الدولتين، وإمكانية وضع جداول زمنية لانسحاب قوات الأخيرة من البلاد، استنادا إلى قرارات مجلس النواب العراقي.. هجمات «داعش» تعزز الموقف التفاوضى لأمريكا، لأن المطالبات الخاصة بإخراج قواتها صدرت فى غياب أى نشاط إرهابى، وبالتالى من مصلحتها إجراء المفاوضات على أصوات تفجيرات «داعش».. أمريكا تراهن أيضًا على حكومة مصطفى الكاظمى الجديدة، وعلى أن تزامن وصولها للسلطة مع عودة نشاط «داعش»، يطرح احتمال طلبها دعما أمريكيا للسيطرة على الأمن داخل الدولة، خاصة وأن اختلاله على هذا النحو ارتبط بالانسحاب الأمريكى.. كما تراهن على ما اتفق عليه ترامب وبرهم صالح فى «دافوس»، من ضرورة الحفاظ على دور عسكري أمريكي في العراق، ناهيك عن عدم قدرة بغداد على تحمل تكلفة إنشاء وتجهيز القواعد الأمريكية حال الانسحاب.

الإشكالية التى يواجهها العراق تتمثل فى أن ميليشيات «الحشد» تتمسك بانسحاب القوات الأمريكية، وتدعى قدرتها على فرض الأمن دون مشاركة من أمريكا أو التحالف الدولي، وتلك ادعاءات تخلو من مضمون، لأن «داعش» ينشط شمال العراق بالمناطق الريفية والمفتوحة، بينما يتواجد «الحشد» في حواضر المدن السنية.. وفى ظل الوجود العسكرى الأمريكى وتوقف نشاط «داعش»، تصاعدت المطالبات بخروج الحشد من المدن، وتجريده من السلاح.. بينما عودة «داعش» إلى النشاط وفر مبررًا لبقاء «الحشد» فى المدن، وأسبابًا لحيازته السلاح لمواجهة التنظيم.. العراق على سطح صفيح ساخن.
13 مايو 2020