رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر: الموسيقى والتاريخ (3)


في منتصف القرن العشرين نجد مصدر آخر هام يحدثنا عن حال الموسيقى العربية في مصر، ويعطينا إشارات مهمة حول المؤثرات الأوربية عليها؛ هذا المصدر هو الكتاب النادر لأحمد أمين "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية". وتعتبر شخصية أحمد أمين هنا شخصية محورية في ثنائية "بلدي وأفرنجي"؛ إذ بدأ دراسته من خلال الدراسات الدينية، ويذكر هو في مذكراته الشخصية التي كتبها تحت عنوان "حياتي" كيف بدأ شبابه في زيّ الشيخ المُعمَّم ثم تتطور حياته تطورًا كبيرًا بانتقاله إلى الجامعة المصرية وتخليه عن الزي المُعمَّم وارتدائه البدلة والطربوش، ووصوله لمنصب عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة.
وإذا تصفحنا هذا الكتاب الهام فإن أول ما يسترعي انتباهنا أن أحمد أمين ـ وعلى عكس مقولة علماء الحملة الفرنسية التي صدمتنا في مطلع القرن التاسع عشرـ يبدأ الجزء الخاص بالموسيقى والغناء قائلاً:
"للموسيقى والغناء عند المصريين مقام كبير وشغف عظيم".
ولكن أحمد أمين يشير إشارة بالغة الأهمية حول اختلاف الموسيقى الشرقية والغربية وإلى تجذر ثنائية "بلدي وأفرنجي" في مصر حتى ذلك الوقت، أي منتصف القرن العشرين:
"الموسيقى المصرية تناسب ذوق المصريين وآذانهم ولا يستسيغون الموسيقى الأجنبية، ومع أنها قد تكون أرقى ـ لاحظ ذلك البعد الدوني ـ كما أنه لا يستسيغ الفرنج الموسيقى العربية".
هكذا نرى أن أحمد أمين يسير على خطى المدرسة التقليدية التي ترى أن الشرق شرق، والغرب غرب، والاثنان لا يلتقيان.
كما يشير أحمد أمين إشارة مهمة حول طبيعة تلقي المستمع وتفاعله مع الموسيقى في الشرق والغرب:
"هم ـ المصريون ـ لا يسمعون الغناء في صمتٍ وسكون كما يفعل الأوربيون ولكنهم يهيصون ويهللون ويعتقدون أن في ذلك تشجيعًا للمغني والمغنية، من مثل قولهم الله الله، كمان يا عيني، ونحو ذلك".
وعطفًا على الملاحظة الهامة التي قدمها كلوت بك في منتصف القرن التاسع عشر حول التأثير الأوربي على الموسيقى العسكرية المصرية، يقدم لنا أحمد أمين وبعد حوالي قرن من الزمان إضافة على هذه الملاحظة المهمة، وكيف قدمت الموسيقى العسكرية المصرية صيغة توافقية بعد ذلك لمسألة الشرقي والغربي:
"أدخلت الموسيقى الغربية في الجيش المصري مع الموسيقى العربية، ولذلك يُلقي الجيش في الحفلات والميادين أدوارًا من الموسيقى الشرقية وأدوارًا من الموسيقى الغربية".
ولكن يبقى السؤال مفتوحًا، ولا نستطيع تقديم إجابة قاطعة عليه: هل ما تقدمه موسيقى الجيش من موسيقى شرقية، وفقًا لمقولة أحمد أمين، هي موسيقى شرقية حقًا، أم هي مزيج بين الاثنين؟ ولكن ذلك ربما يفتح الباب لبحوثٍ أخرى عميقة في هذا المجال.
على أية حال ستأخذ مسألة أثر التغريب على الموسيقى الشرقية بُعدًا وطنيًا وأيديولوجيًا أخر عند جيل الستينات من القرن العشرين؛ ونقصد بذلك بعض رموز اليسار المصري الذي رأى في تغلغل الموسيقى الغربية داخل المجتمع المصري نوع من الغزو الفكري، شبيه بمثيله في الإعلام والثقافة والتعليم، ويشير فتحي الخميسي في كتابه "أزمة الموسيقى المصرية وأزمة المقامات" إلى مدى تأثير ذلك على "الهوية" الموسيقية المصرية.
على أية حال لم يكن اللقاء الأول بين الموسيقى الغربية والشرقية في مصر لقاءً عاديًا، بل كان أقرب إلى الصدام منه إلى اللقاء؛ إذ جاء هذا اللقاء مصاحبًا لدقات المدافع وحركة الاستعمار، ومحملًا بالأيديولوجيا والنظرة الاستشراقية الاستعلائية لكل ما هو شرقي، وترك ذلك أثره في نفسية الشرقي، وخلق ـ بجانب عوامل أخرى ـ ثنائية بلدي وأفرنجي، وحدث انشطار رهيب في الذوق المصري- لا سيما لدى المثقفين- هو يميل بقلبه إلى الموسيقى الشرقية، ولكن بعقله إلى الموسيقى الغربية، هو يبذل مجهودًا كبيرًا في فهم وتذوق الموسيقى الكلاسيكية والذهاب إلى الأوبرا، بينما مشاعره ووجدانه تذهب في اتجاه أخر نحو الموسيقى الشرقية، يتباهى بميله إلى الموسيقى الغربية حتى لا يصبح أقل قدرًا من الغربيين، وربما دفع ذلك البعض، من باب الوطنية، إلى إنتاج موسيقى عربية متطورة تضارع الموسيقى الغربية، وهكذا لم نخرج حتى الآن من ثنائية بلدي - أفرنجي.