رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثلاث جوائح!


ضربت العالم جائحة "كورونا المُستجد"، فأفقدته صوابه أو كادت، وترنّحت تحت مطرقة هجماته المُفاجئة دولاً كُبرى، كان يُعتقد فى أهليتها علي مواجهة مشكلاتٍ أكبر وأعمق، وراحت تتخبط موجوعة تحت مطرقة فيروس بالغ الصغر شديد المكر والدهاء، متكلفةً عشرات الآلاف من الضحايا، وتريليونات من الدولارات، خسائر مادية منظورة، مُضافٌ إليها خسائر كُبرى أخرى غير مرئية لا تقل فداحةً، علي مستوى الهيبىة والزعامة الكونية والثقة فى النفس واستحقاق المكانة، ولننظرن إلي الولايات المتحدة، وما حاق بها، وتداعيات بؤس إدارة قيادييها للأزمة بشكلٍ يستحق الرثاء، علي سبيل المثال!
*****
وإذا كانت أغلب دول العالم، قد قُيِّضَ لها أن تُعاني من هذه الجائحة العنيفة المُراوغة، والنتائج المُجهدة التى لا مهرب من تحمُّل أكلافها، اليوم وفى الغد القريب، فإن قَدَرَ مصر الذى لا مفر منه، أن تُواجه ـ فى الأيام التالية ـ علي وجه التحديد، جائحتين إضافيتين، لا مهرب من مواجهتهما، إضافة إلي المواجهة المفروضة لجائحة "كورونا" حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً، وهما جائحتى عودة الإرهاب إلي ممارسة جرائمه الدنيئة، علي نحو ما رأينا فى جريمتة الخسيسة بـ "بئر العبد"، جنوب سيناء، مؤخراً، والثانية قضية "سد النهضة" التى اقتربت بقوة لحظة مواجهة حقائقها المُرّة، فى الأيام القليلة القادمة!
*****
ففيما يخص قضية الإرهاب الذى أطل برأسة مُجدداً منذ أيام، علي نحو ما كشف البيان الذى أصدرته الأجهزة المعنية مؤخراً، والذى يتضمن إعلاناً تفصيلياً لوقائع المواجهة المُتسعة، الشرسة، التى تدور بين القوات المُسلَّحة وقوات الأمن، من جهة، وبين عصابات القتل والتكفير من جهة أخرى، ما يُنبئ بأنه من المُبكر التيقن من صوابية تصورات البعض بأن قضية المواجهة مع الإرهاب قد حُسمت بهزيمته أو تكاد!

ذلك أن الإرهاب نوع من الجوائح التى تملك المقدرة علي تجديد الخلايا، وتغيير الجلد، وإعادة الانبعاث، بسبب الإمكانات الهائلة التى تُيسرها لعصاباته العميلة دولٌ معادية وأجهزة استخبارات كبرى معلومة أو مجهولة، إضافة إلي وجود بيئة حاضنة، ومناخ فكرى عقائدى مُترسخ، مغروس فى أرضية مواتية علي امتداد القرون والعقود، علي هيئة عقائد جانحة، وأيديولوجيا مُتطرفة، وثقافة مُتعصّبة، وهيئات تنظيمية شبه علنية متغلغلة فى أوصال وبنية المجتمع وتشكيلاته، مظهرها خدمة الدين لوجه الله، وباطنها خدمة أهداف أخرى باتت معروفة!
*****
أمّا قضية "سد النهضة"، التى باتت تفاصيل مراوغات أثيوبيا ومماطلاتها بشأنها غير خافية، فآخر فصولها إعلان "آبي أحمد"، رئيس الوزراء الأثيوبي، بمناسبة الذكرى التاسعة لانطلاق العمل فى المشروع أوائل شهر أبريل الماضى، بأن "الملء سيبدأ فى موسم الأمطار المقبل رغم تحديات وباء "كورونا"، أى أن ملء خزان السد، دون اتفاق مع مصر، ووفق الرغبات الأثيوبية الجائرة، سيبدأ فى شهر يونيو القادم بعد أيام، وينتهى فى شهر سبتمبر المُقبل، وتستغل أثيوبيا انشغال العالم كله، وفى مقدمته الولايات المتحدة، التى راهن البعض على موقفها، بـ "كورونا" ونتائجها، واضعةً مصر أمام لحظة مصيرية حاسمة، سيكون لها أياً كانت التداعيات تأثرات خطيرة علي مستقبلها وحياة شعبها.
*****
يجمع بين الثلاث جوائح المُشار إليها، أنها كبيرة الأثر، عاجلة التأثير، ولا يمكن تأجيل بعضها أو التحلُّل من مواجهتها معاً، وأن كلفة المواجهة ليست بالهيِّنة، وأن نتائجها مباشرة، وجميعها ذات نتائج واسعة علي حياة البلد والناس.

إن النجاح فى مواجهة هذه الجوائح الثلاث، مرهون بمستوى وعى المواطن وانضباطه الطوعى المبنى علي الفهم والقبول، والوعى هنا أمرٌ قائم علي الاقتناع مصحوب بسلوك ملتزم عن فهم وإدراك. أى مربوط بمستوى من الثقافة الوطنية الرفيعة، والتعليم الراقي بالمعنى الشامل، وامتلاك رؤية مستقبلية ذات بُعد إنساني منفتح، بعيداً عن التعصّب والفردية، والنزعات الانتقامية والعدمية، والنزوع الفوضوى والسوقى، علي نحو ما نلحظه فى هذه الأيام.
وفى القلب من مشروع مواجهة تداعيات هذه الجوائح المتلازمة الثلاث، وبالإضافة إلي مسئولية الحكم وتبعاته، فإن شعور الناس بالأمان الاقتصادى، والتشارك العادل فى تحمل أعباء المواجهة الصعبة، والمشاركة الإيجابية فى مناقشة البدائل والأولويات وصنع القرار، وانفتاح المجال العام، والتفاعل السياسى الواقعى، جميعها أمور لازمة لا تحتمل التأجيل.