رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موقف سودانى جديد متزن وعلى الطريق الصحيح


مؤخرًا ومنذ يومين فقط، قام السيد رئيس الوزراء السودانى، عبدالله حمدوك، باتخاذ خطوة جديدة على مسار أزمة «سد النهضة»، عبر إرساله خطابًا لرئيس الوزراء الإثيوبى «أبى أحمد»، ردًا على رسالة الأخير المتعلقة بالمقترح الإثيوبى لتوقيع اتفاق جزئى للملء الأول لسد النهضة.
أعرب السودان فى هذا الخطاب عن موقفه الجديد بشأن أهمية التوصل لاتفاق ثلاثى بين الخرطوم وأديس أبابا والقاهرة قبل بدء الملء الأول لسد النهضة والمتوقع أن يكون فى يوليو المقبل، حيث اعتبرت الخرطوم أن توقيع أى اتفاق جزئى للمرحلة الأولى لا يمكن الموافقة عليه فى الوقت الراهن، نظرًا لوجود جوانب فنية وقانونية يجب أن يجرى تضمينها فى الاتفاق، من ضمنها آلية التنسيق وتبادل البيانات الفنية، فضلًا عن سلامة السد والآثار المحتملة من التشغيل وبخاصة البيئية والاجتماعية منها.
يشير السيد حمدوك فى خطابه المهم إلى التشديد على وصول المعنى واضحًا لأديس أبابا، بأن طريق الوصول إلى اتفاقية شاملة هو الاستئناف الفورى للمفاوضات، التى أحرزت تقدمًا كبيرًا خلال جولات الأشهر الأربعة الأخيرة، وهو فى هذا السياق يؤكد مرجعية «وثيقة واشنطن»، التى يؤكد أطرافها فيما عدا إثيوبيا بالطبع أنها أنجزت توافقًا على ما يقارب ٩٠٪ من نقاط الخلاف، على اعتبار أنها لم تقف عند حد الملء الأول فقط، وإنما تناولت كل مراحل الملء والتشغيل طويل المدى حتى فى سنوات الجفاف والجفاف الممتد.
وإدراكًا من السيد عبدالله حمدوك للظروف الاستثنائية التى يمر بها العالم، ونزعًا لأى ذرائع قد يجنح إليها الجانب الإثيوبى كعادته، لم يفت رئيس الوزراء الإشارة بوضوح إلى أن الظروف الحالية التى قد لا تتيح فرصة المفاوضات عن طريق القنوات الدبلوماسية العادية يمكن استئنافها عن طريق المؤتمرات الرقمية والوسائل التكنولوجية الأخرى التى استخدمت فى أكثر من اجتماع إقليمى ودولى، من أجل استكمال عملية التفاوض تحت الرعاية الأمريكية، لإنجاز الاتفاق الثلاثى حول النقاط المتبقية، قبل حلول فترة الفيضان المقبل هذا العام بعد شهور.
حظيت تلك الخطوة السودانية الجديدة بترحيب كبير من كل المراقبين باعتبارها تعيد المسار إلى طريقه الرصين، الذى يغلب منطق التعاون والتفاوض بديلًا عن آلية «فرض الأمر الواقع» والمراوغة، التى تنتهجها إثيوبيا، والتى كان انسحابها المفاجئ من مسار واشنطن فى اللحظات الأخيرة ورفضها التوقيع على ما جرى الاتفاق عليه من جميع الأطراف، رغم أنه يحقق قدرًا معقولًا ومتوازنًا من مصالحهم مجتمعة- إحدى أبرز تلك الصور للمراوغة واستعادة الدوران للعودة بالأزمة للنقطة صفر. فبعد أسابيع من هذا «الانسحاب» اندلعت جائحة «كورونا» التى تسببت فى إشغال كبير لكل دول العالم عن المضى فى إنجاز الخطوات التى افترض أنها كانت جاهزة للتعامل مع التعنت الإثيوبى. فى الوقت الذى استغلت أديس أبابا هذا الأمر لتكريس نقض كل الاتفاقات، ووفق النقطة صفر، أعلنت عبر آلياتها «الشعبوية» التى تنتهجها منذ البداية، على لسان «رومان جبريسيلاسى»، مديرة مكتب المجلس الوطنى لتنسيق المشاركة العامة فى بناء «سد النهضة» الإثيوبى، عن جمع أكثر من «٥٣٠ مليون بر إثيوبى» ما يعادل «١٠ ملايين دولار أمريكى»، خلال الأشهر الماضية على اعتبار أن ما أسمته «الموقف الخاطئ» لبعض البلدان، أعاد للإثيوبيين الرغبة والإرادة لتنشيط دعم السد، وهى فى حديثها الذى نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية على نحو واسع، كانت تشير إلى الولايات المتحدة ومصر والسودان، متهمة إياهم بأنهم يتجاهلون «سيادة إثيوبيا».
بالعودة إلى خطوة رئيس الوزراء السودانى نجد أنها بالفعل تمثل تحولًا فارقًا يتجاوب مع الكثير من هواجس الداخل السودانى والمصرى، الذى يرى فى غالبيته أن النهج الإثيوبى الأحادى فى المضى قدمًا نحو الملء الأول دون اتفاق مع الشركاء فى الخرطوم والقاهرة يمثل تهديدًا كبيرًا لمصالح كل منهما، فضلًا عن الأخطار المحتملة المتعلقة باشتراطات أمان السد التى ظل الجانب الإثيوبى يتجاهلها، ويداور فى متطلبات استيفائها قبل عملية الملء التى تعلن عنها أديس أبابا يوميًا، على ألسنة مسئوليها وكل من له ارتباط بمشروع السد، فى ضغط وحشد إعلامى ممنهج يستهدف الداخل الإثيوبى فى الأساس، بغرض ترميم الشروخ العميقة التى تضرب العملية السياسية فى أديس أبابا منذ سنوات، والدفع بتلك الخلافات والصراعات الإثنية المستحكمة خلف حوائط «سد النهضة».
وفى جانب آخر تصدير المشكلات إلى كل من القاهرة والخرطوم، وفق نظريات إثيوبية معيبة وبالية تعتبر أن مصر والسودان مختلفين ومأزومين سويًا أو كلًا منهما على حدة، يحقق مصالح مؤكدة لأديس أبابا التى تظل أسيرة التوجس والخوف من محيطها الجغرافى، بالقدر الذى يجعلها قد تضحى بأمن وسلامة الإقليم برمته، تحت وطأة هذه القناعات المختلة التى لم تقف عند حد السودان ومصر، ولا حول أمن المياه الوجودى، فجوارها الجغرافى على حدودها المختلفة معبأ بخلافات ونزاعات واحتقانات تاريخية بأكثر مما تسمح المساحة بتناولها، لكن مطالعتها فقط تؤكد القناعات الإثيوبية الراسخة لديها حتى الآن.
السودان الجديد يصحح الآن الكثير من مثالب النظام السابق، الذى ظل يغرد على نحو متناقض مع المصالح القومية السودانية قبل المصرية ودوائر جواره الأهم، وينظر اليوم إلى المستقبل بعيون مفتوحة على مصالح السودانيين وعلى أمن إقليمى مستقر، يعيش ويتشارك فيه السودان مع دول شقيقة يجمعه بها مصير مشترك بحقائق التاريخ والجغرافيا، لعل أحد تلك النماذج المشرقة، والتى جاءت خطوة السيد عبدالله حمدوك الأخيرة متجاوبة معها على نحو كبير، هو «المجموعة المدنية المناهضة لمخاطر سد النهضة»، والتى جددت دعوتها للحكومة السودانية بمكاشفة الشعب السودانى بحقيقة مخاطر السد على السودان، مطالبة الحكومة بعرض «دراسات أمان السد» التى التزمت أديس أبابا بتنفيذها، حسب ما ورد فى اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة ٢٠١٥، ونشر التقارير التى تؤكد تنفيذ ما التزمت به، فضلًا عن تقرير «لجنة الخبراء الدولية» النهائى حول تنفيذ إثيوبيا الكامل لما تعهدت به. هذا السودان الجديد الذى يقف بقدميه على أرض صلبة، ويسير على خطى تأمين والحفاظ على مصالح السودانيين الوطنية، هو ما تجده القاهرة بالتبعية يصب فى مسار المصالح المصرية. كما أن تلك الأخيرة تعضد هى الأخرى مصالح السودان القوى الذى سيشكل قريبًا دون شك، رقمًا إيجابيًا فى استقرار الإقليم الذى تسعى بعض الأطراف للعبث به، دون إدراك لأهمية ودقة مكونات هذا الاستقرار، الذى يحقق وحده دون غيره الأمان والرخاء لتلك الشعوب مجتمعة، فليس هناك وفق تلك المعادلات الأزلية منتصر أوحد، تمامًا كما لا يوجد مهدد فى مصالحه الوجودية سيصمت أو يمرر العبث بها.