حكاية شارع الشيخ يوسف.. أول رئيس لمخابرات محمد علي
منذ أن أنشأها القائد الفاطمي جوهر الصقلي سنة 969 م شمالي مدينة الفسطاط وبناها في ثلاث سنوات وأطلق عليها اسم "المنصورية"، ثم جاء الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في 7 رمضان 11 يونيو 972م، وجعلها عاصمة لدولته، وسماها "القاهرة" وهو اسمها الحالي.
شهدت العاصمة المصرية العديد من التغيرات والتحولات المعمارية٬ بل وحلت معالم مكان أخري٬ فعلي سبيل المثال لا الحصر مقهي ريش بوسط القاهرة٬ بني علي أنقاض قصر محمد علي باشا والذي كانت مساحته تمتد من ميدان التحرير حتي ميدان طلعت حرب.
وفي كتابه "القاهرة قصص وحكايات" يحكي لنا مؤلفه عبد المنعم شميس عن جانب من هذه التحولات التي شهدتها القاهرة٬ والأماكن التي نعرفها والأصل الذي كانت عليه.
ــ جامع عمر مكرم وحكاية "الشيخ العبيط"
في مكان جامع عمر مكرم كانت توجد زاوية صغيرة لرجل اسمه "الشيخ العبيط" ولا زال الشارع الذي يوازي الجامع من ناحية مبني وزارة الخارجية اسمه شارع الشيخ العبيط. ومبني وزارة الخارجية كان في الأصل قصر فخري باشا الذي تزوج الأميرة فوقية بنت الملك فؤاد من مطلقته الأميرة "شيوه كار" وكان ثمن الزواج تعيينه سفيرا لمصر في باريس.
يستطرد "شميس": وكان بجوار قصر فخري باشا كان يوجد بيت من طابقين لا تفتح فيه نافذة في ليل أو نهار ولم يكن مهجورا٬ وقد لاحظنا أن رائحة الشواء تتسلل من مطبخه إلي الشارع٬ وحاولنا معرفة أسرار هذا البيت٬ فدق أحدنا الباب وفتح له خادم نوبي٬ وسألنا عما نطلب فقلنا نريد أن نشرب٬ وعاد إلينا الرجل حاملا صينية عليها أكواب من شراب الورد المثلج٬ وكنا في الصيف٬ فقلنا أننا طلبنا شربة ماء ولكنه أخبرنا أن البرنس أمر بشراب الورد. وعرفنا أن ساكن البيت المغلق واحد من أمراء آل عثمان الذين جار عليهم الزمن بعد سقوط الخلافة. ودعاني الأمير التركي أنا وصديقي للجلوس معه ومؤانسته فاعتذرت: لأنني سبق أن جربت معرفة أمراء آل عثمان٬ فقد تعارفت مع أميرة عثمانية في إحدي الجمعيات الإسلامية ودعتني لشرب الشاي في بيت والدها الأمير المشهور٬ ولبيت الدعوة وجلست إلي مائدة الشاي في انتظار الأمير راعي جمعيات الإسلام. وفتح الباب ودخل منه رجل في طول الباب وعلي كتفه بندقية وبيده سلسلة مربوطة في عنق كلب في حجم الكبش الكبير٬ ومنذ هذا اليوم ابتعدت عن صداقة أمراء آل عثمان.
ــ حكاية شارع الشيخ يوسف أول رئيس لمخابرات محمد علي
يتابع "شميس" ولكن الشيخ العبيط كان يشغلني٬ وأخيرا عرفت أنه كان يعمل هو والشيخ يوسف في مخابرات محمد علي التي كان يرأسها "محمد بك لاظ أوغلي" دفتر دار مصر أو رئيس الوزراء بلغة عصرنا. أما الشيخ العبيط فقد عرفنا مكانه٬ وقد هدمت زاويته وأقيم مكانها جامع عمر مكرم. فمن هو الشيخ يوسف وأين ضريحه وأين زاويته؟ كان الشيخ يوسف رئيس الجهاز السري في دولة محمد علي٬ وقد جند عشرات الرجال والنساء لمعرفة كل أخبار وأسرار البلد٬ ثم يجمعها ويكتب التقرير الذي يرفع إلي لاظوغلي ثم يبلغه الدفتردار لمحمد علي. وكان بيت "مونج" خلف المدرسة السنية في السيدة زينب مقر الشيخ يوسف والشيخ العبيط وغيرهما وكان في بابه فتحة تلقي منها رسائل أعوانهما ولا أحد يعرف شيئا عن الآخر.
أما مكان الشيخ يوسف فهو ضريح أسفل عمارة هائلة بشارع القصر العيني علي الجانب الآخر من مبني مجلس الشعب٬ ولهذا الشيخ شارع بأسمه في جاردن سيتي٬ وقد كان "لاظوغلي" ومازال مشهورا وفي الجيل الماضي أقترن هذا الاسم برئاسة مجلس الوزراء التي كان مبناها قائما في ميدان لاظوغلي قبل أنتقاله إلي قصر الأميرة "شيوه كار" أمام مجلس الشعب.
وكان المبني القديم للرئاسة ــ وهو موجود وبه وزارة المالية ــ قصرا من قصور إسماعيل المفتش وزير مالية مصر في عهد الخديوي إسماعيل. أما المبني الجديد فهو قصر "شيوه كار" وقد أشترته الحكومة بعد وفاتها من أبنها "وحيد باشا سري" وحولته إلي ديوان حكومي. وقد دخلت هذا القصر أيام الأميره شيوه كار ورأيت فيه قاعة التماثيل الفاخرة لملوك أسرة محمد علي حتي فاروق٬ وكان سكرتير الأميرة يسكن معنا في حلوان فدعاني وأحد أصدقائي إلي حفلة الخميس التي كانت تقيمها في قصرها٬ وشاهدت الأمراء والأميرات لأول وأخر مرة في حياتي وهم في ملابسهم الرسمية وأشكالهم الغريبة علي مثلي٬ فلم أستطع أن أفرق بينهم وبين التماثيل إلا حين يتحركون.
وكانت الأميرة تجلس علي كرسي مذهب مرتفع في مدخل القصر بجوار السلم وكان كل داخل ينحني ويقبل يدها٬ ثم ينبث الزائرون في غرف الصالونات. ثم شاء القدير بعد ذلك أن أدخل هذا القصر وأنا موظف في رئاسة مجلس الوزراء.