رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسقف بدرجة راهب !!


أنا أعلم أن عنوان المقال – فى حد ذاته – يسبب حيرة وتساؤل!! فالرهبنة ليست "درجة" بل هى حياة أختارها الإنسان بمحض إرادته بعد أن ترك الأهل والأصدقاء والعمل والشهادات الدنيوية التى حصل عليها والمناصب العديدة التى كان يتولاها، وذهب بمحض إرادته إلى الصحراء حيث العبادة الخالصة لله والأنشغال بصدق فى الحب الإلهى الصادق بعيداً عن أى تكريم أو مديح عالمى. وفى التقليد المسيحى الأول لم يكن الراهب يحصل على أية درجة كهنوتية، فآباء الرهبنة الأولين أمثال القديس أنطونيوس، والقديس بولا، والقديس مكاريوس، والقديس شنوده رئيس المتوحدين .. الخ، لم يكن لديهم أية درجة كهنوتية. وفى عصرنا الحديث كان الأب متى المسكين – أب رهبان دير القديس أنبا مقار بوادى النطرون – والأنبا مينا آفا مينا أسقف ورئيس دير مارمينا بمريوط، ضد أن ينال الراهب درجة كهنوتية. لذلك حتى الآن يوجد بعض الرهبان بدير أنبا مقار بوادى النطرون ودير القديس مينا بمريوط بدون أية درجة كهنوتية. وهؤلاء أبتعدوا عن المناصب الكنسية وتفرغوا للعبادة. ليس هذا فقط، بل أنه حتى وقت قريب لم يكن هناك رئيس دير بدرجة أسقف، بل رئيس الدير يحمل فقط رتبة قمص (ومازال هذا النظام مُتبّع فى الكنيسة اليونانية ويحمل اسم "أرشمندريت")، وحتى البابا كيرلس السادس البطريرك 116 (الذى أقام فى البطريركية نحو 12 عاماً للأسف) لم يقيم أى أسقف رئيساً لدير، بل عندما جاء إلى البطريركية فى 10 مايو 1959 وجد بعض الأديرة بها أساقفة فتركهم فى منصبهم، وعندما تنيح (توفى) بعضهم ترك الدير بدون أسقف لكن أختار أحد الرهبان ليدّبر شئون الدير. واليوم نبكى على أيام البابا كيرلس.
الشئ العجيب – والمُحزن فى نفس الوقت – أن كثير من الرهبان (وليس جميعهم) الذين تم أختيارهم لدرجة الأسقفية فى إيبارشيات مختلفة، تخلوا عن الزهد الإختيارى والفقر الإختيارى والتفرغ للصلاة والعبادة وأصبح لديهم مقارات فخمة يقيمون بها، وسيارات مختلفة الأشكال والأنواع يستقلونها، وبعضهم لديهم حراسات خاصة تحيط بهم!! فقدوا الرهبنة!!
والآن أود أن أتكلم عن أسقف يحيا بيننا ولم يتغير عن نذر رهبنته، وهو من بين قلة جداً يسلكون بهذا المسلك الرائع. كنت أعرف راهباً بدير البراموس العامر بوادى النطرون يحمل اسم الأب "ميخائيل البراموسى". عندما تأسس دير باسم القديس أنطونيوس بمنطقة "كريفلباخ" – بالقرب من مدينة فرانكفورت - بالمانيا، تم أختيار الأب ميخائيل البراموسى لتدبير أمور هذا الدير (إذ كان الأنبا أرسانيوس أسقف المنيا فى ذلك الوقت – وهو أحد رهبان دير البراموس – قد أختاره للخدمة). سافر الأب ميخائيل إلى المانيا، وهناك تعرفت عليه فوجدته رجل صلاة حقيقى مثل مُعلمه البابا كيرلس السادس، فواظب على القداسات اليومية مما زاد تعلق الشعب به. بعد ذلك تمت إقامته أسقفاً على الدير وعلى جنوب المانيا باسم "الأنبا ميشائيل". هل غيرّت الأسقفية فيه شيئاً؟ لا، بل استمر فى مواظبته اليومية على الصلاة وتناول الطعام البسيط والزى الرهبانى البسيط بدون أية زركشة، ومن النادر كان يحمل عصى الأسقفية.
حدث يوم الجمعة الأول من مايو 2020 أن أقيمت بكنيسة مارمرقس بمدينة فرانكفورت بالمانيا صلوات تجنيز كاهن مبارك بالحقيقة هو الأب بيجول باسيلى مقار الذى خدم شعبه بكل تقوى وبساطة وحياة بذل حقيقى، وكان يشغل فى القاهرة وظيفة كبير مهندسى السنترالات السلكية واللاسلكية وكانت له شهرة كبيرة، وبعد أن قضى فى الكهنوت نحو 40 عاماً تنيح عن عمر نحو 85 عاماً. حضر صلوات التجنيز كاهن الكنيسة والأنبا ميشائيل. لم نشاهد الأسقف يرتدى عمامة الأسقفية الكبيرة، لم نشاهد الأسقف يحمل عصى الأسقفية، لم نشاهد الأسقف يجلس فى الصدارة على كرسى خاص، بل جلس بعد كاهن الكنيسة، وترك لكاهن الكنيسة حرية رئاسة الصلوات المختلفة، بينما الأسقف يقف مستمعاً. وعندما جاء وقت إلقاء كلمات التعزية وقف الأسقف ببساطة كاملة يتحدث بصيغة التلميذ الصغير للكاهن الذى رحل، وبكلمات صادقة عبر عن حبه الشديد للكاهن الذى رحل، وطلب بلجاجة أن يصلى من أجله فى مواضع الراحة. لم نكن نستمع لعظة بل كنا نستمع لصلاة صادرة من القلب، بل ولمناجاة من الأب الأسقف للكاهن الذى رحل. لقد قدم عظة بليغة فى إنسان الله الذى لم ينخدع بمظاهر الأسقفية. أعرف شخصياً بعض الأساقفة يسلكون هذا المسلك الحسن.
ومن نعمة الله على جيلنا أننا رأينا فى حياتنا أيضاً بطريركاً يعيش بيننا بدرجة راهب!! والبطريرك ما هو إلا أسقف، ويأخذ لقب "بابا وبطريرك" وقت إقامة الراهب أسقفاً على إيبارشية الإسكندرية، وحينئذ يأخذ لقب "بابا وبطريرك" لأن هناك مازال الكثيرون – ومنهم بعض رجال الدين – يعتقدون أن البطريركية هى "ترقية" من أسقف أو مطران إلى بطريرك!! هذا البطريرك الذى عاش بدرجة راهب هو البابا كيرلس السادس (1959 – 1971) البطريرك 116. وهنا أود أن أذكر الواقعة الآتية: فى يونيو 1970 كنت أصلى معه قداساً بدير القديس مينا العجايبى بمريوط، وكنا منفردين وحدنا فلا يوجد شعب أو شمامسة أو رهبان أو حتى تلميذه. فكنت أقوم بصلوات الشماس والشعب. ففى الصلوات اليومية التى تقيمها الكنيسة يوجد طلبة خاصة يرددها الكاهن والشماس من أجل البابا البطريرك. فجال بخاطرى فكر: ماذا سيقول البابا كيرلس السادس فى طلبة البابا البطريرك؟ وعندما بدأنا فى الطلبات، أنتظرت عن عمد لأستمع ماذا سيقول البابا كيرلس؟ وغالباً أدرك ما كان يجول بفكرى، وهنا وجدته ينبهنى بسرعة لترديد صلاة الشماس قبل أن استمع إلى ما يقوله. وفعلاً بدأت فى ترديد صلاة الشماس لكن أذنى كانت منصته بأهتمام بالغ لما يقوله البابا كيرلس، فسمعته يقول: (أذكر يارب عبدك كيرلس)، وكانت صلاة صادرة فعلاً من القلب. وبعد أن أنتهينا من صلاة القداس، جلس على الأرض (لم يجلس على كرسى البابوية أو على كرسى خاص، بل على الأرض) وقال لى: أبوك عطشان. فأحضرت له قُلة من الفخار فأخذها منى وأخذ يشرب (تماماً مثل الفلاح البسيط الجالس فى الغيط يشرب الماء من القُلة). وبعد أن أنتهى كنت فى حرج شديد أن أقول له هنيئاً