رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: التبن أعز من التبر

محمود خليل
محمود خليل

وصل قطار رمضان إلى عام ١٢١٨ هجرية، وافقت بداية الشهر الكريم منتصف ديسمبر عام ١٨٠٣ ميلادية، سنتان مرتا على خروج الحملة الفرنسية من مصر، وبدا المشهد فيها شديد الارتباك، فخلال ما لا يزيد على ٤ سنوات تبدل العديد من الولاة العثمانيين على حكم المحروسة، مات مراد بك عام ١٨٠١ وتقلص دور إبراهيم بك، فى الوقت الذى صعدت فيه أدوار المملوك محمد الألفى والمملوك عثمان البرديسى.
كان «خسرو باشا» أول والٍ عثمانى على المحروسة بعد خروج الفرنسيين، ولم يمكث فى الحكم أكثر من عام، ثم لاذ بدمياط هربًا من المشكلات الاقتصادية التى وجد نفسه عاجزًا عن حلها، وتولى السلطة من بعده طاهر باشا وكان ذلك عام ١٨٠٣ الذى شهد فيه المصريون أوضاعًا اقتصادية شديدة البؤس وظروفًا معيشية عظيمة الضنك، فقد باتوا فريسة لكل المتصارعين على حكم البلاد من انكشارية وأرناؤوط بالإضافة إلى المماليك المصرلية.
رمضان عام ١٨٠٣ كان قاسيًا على المصريين، ففى وقت يحنون فيه إلى الصرف والإنفاق والتوسعة على الزوجات والأبناء خلال هذا الشهر تعقدت الأوضاع وشحت الأقوات وقلت الأعمال، احتمل أهالى المحروسة الشعور بمرارة الحرمان خلال الشهر، لكن ما لم يتمكنوا من تحمله حقًا هو رزالات الأرناؤوط التى بدأت بالأذى بالكلمات ثم الضرب ثم السلب والنهب، وكان المحرك الأول لهم هو طاهر باشا، فقد ناور بجنوده على منافسيه لكى يضطر المشايخ والأعيان إلى المناداة به واليًا على مصر، من منطلق أن الذى عقد العقدة هو القادر على حلها وبذلك يتمكن من هزيمة منافسيه.
تحوّل شهر الصوم بفعل ممارسات الأرناؤوط إلى شهر للعربدة على حد تعبير «الجبرتى»، واستحل هؤلاء الجنود سرقة كل شىء، بما فى ذلك «العمائم» التى اعتاد المصريون ارتداءها فى ذلك الوقت، كان الأرناؤوط يتربصون بأى مار فى الطريق فيخطفون عمامته ثم «يشلحون ثيابه» بتعبير «الجبرتى»، ويترصدون للذاهبين إلى الأسواق، مثل سوق إمبابة، لشراء احتياجات رمضان فيهجمون عليهم ويسلبونهم الدراهم التى يحلمونها لشراء طعام من يعولون، وبعد أن يفرغوا من ذلك يدخلون إلى السوق نفسه ليسلبوا الفلاحين بضاعتهم، فتوقف الفلاحون عن التحرك ببضائع إلى الأسواق.
ونتيجة لذلك شحت البضائع بالأسواق وارتفعت أسعار السلع وعم الغلاء بصورة غير مسبوقة حتى بات «التبن أعز من التبر» كما يقول «الجبرتى»، فقد كان الأرناؤوط يقيمون أسواقًا خاصة بهم يبيعون فيها ما نهبوه من بضائع بأغلى الأسعار، لم يتوقف الأرناؤوط عند هذا الحد بل أعملوا أسلحتهم فى الناس فمات الكثيرون، فقد كان القتل بالنسبة لهم أسهل حل للمشكلات وما أكثر ما قتلوا بعضهم بعضًا مع أول اختلاف على توزيع المغانم، انتهى المشهد بتولية طاهر باشا قائد الأرناؤوط قائمقامية مصر، لكن ولايته لم تدم أكثر من ٢٦ يومًا، انتهت بقطع رأسه على يد اثنين من الانكشارية، أما على باشا الجزايرلى الذى تولى الحكم بعد «طاهر» فقد استدرجه المملوك عثمان البرديسى وقتله، ليثب على ولاية مصر من بعده خورشيد باشا.
اللطيف فيما يحكيه «الجبرتى» فى عجائب الآثار وهو يتناول رمضان عام ١٨٠٣ ما ذكره من أن غالب الأرناؤوط كانوا لا يصومون رمضان، ولم يعرف بأى دين يتدينون، ولا بأى مذهب أو طريقة يمشون عليها، وكأن من ينهب ويسلب ويستحل دماء الغير ينتظر منه صيامًا أو قيامًا.