رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثروت الخرباوى يكتب: «فاوست المصرى».. قصة شياطين السينما والدراما المصرية

ثروت الخرباوى
ثروت الخرباوى

«فاوست» وما أدراك ما فاوست! هل تعرفه؟ هل رأيته؟ انظر فى نفسك ستجد «فاوست الصغير» وهو يأخذ حيزًا ما فى داخلك، أحيانًا يكون الحيز الذى احتله صغيرًا، وأحيانًا أخرى يكون قد استولى على داخلك كله، كل هذا متوقف على مَن أنت؟ وماذا تريد؟ وقف الإنسان منذ فجر الحياة موقف العاجز أمام أسرار الكون، ولكن السر الأعظم الذى شتت عقله هو «سر الحياة»! هو الخلود! هو شجرة الخلد التى أخرجت أبوينا آدم وحواء من الجنة، ولأن إبليس كان يعرف طبيعة الإنسان وشغفه بالمعرفة ورغبته فى الاستمرار فى الحياة بلا انتهاء لذلك وسوس لهما، وظل إبليس يوسوس، وظل الإنسان يَخضع ويُخْدَع ثم يتمرد، إن الإنسان لظلوم جهول.

ولا أريدك أن تغضب من ذلك الإنسان الجهول، إذ إن جهالته هذه أخرجت للبشرية حكمة، نعم، فقد تُولد الحكمة من رحم الجهالة! فمِن وسوسة الشيطان نسج البشر أساطير، ومن شغف الإنسان بمعرفة سر الحياة نسج البشر قصصًا، وكانت قصة «فاوست» من تلك الأساطير ومن هذه القصص، و«فاوست» هذه قصة من الأدب الشعبى الألمانى ظلت تُتناقل بين الأجيال مشافهة، يرويها الآباء لأبنائهم فى حواديت قبل النوم، ويكتبها البعض فى أقاصيصهم، إلى أن ظهر على كوكب الأرض رجل اسمه «جوتة» كان من فلاسفة ألمانيا ومن كبار أدبائها، فأعطى حياة حقيقية لقصة «فاوست» عندما كتبها، فكانت مسرحية «فاوست» لـ«جوتة» أعظم ما كتبه البشر عن العلاقة بين الإنسان والشيطان، «فاوست» الأسطورة كان كيميائيًا يبحث عن سر الحياة، ويجرى خلف «حجر الفلاسفة» الذى إذا امتلكه امتلك الدنيا كلها، «فاوست» الإنسان يبحث عن «الخلد» والمُلك الذى لا يُبلى، ومن سيعطيه تلك الأسرار؟ إنه إبليس الذى وسوس لأبوينا وهما فى جنة «الخلق» جنة الابتداء، فباع «فاوست» برغبته روحه للشيطان، وما أقسى أن تبيع روحك لآخرين حتى ولو كانوا ملائكة!، فما قولك لو كان الذى اشترى روح «فاوست» هو الشيطان لا الملاك؟، وحينما قرأت ترجمة الفيلسوف المصرى عبدالرحمن بدوى لقصة «فاوست» لـ«جوتة» أدركت أن شقاء الإنسان لا يكون إلا بفعله.
نسجت السينما العالمية عشرات الأفلام التى تدور حول تلك المعانى، الإنسان الذى يبيع نفسه للشيطان، ولكن لم تأت معالجة مقنعة فى معظم هذه الأعمال عن السبب الذى جعل إبليس يدخل فى تلك الصفقة مع ذلك الإنسان بذاته، نعم قد يكون مفهومًا لدى الجميع أن ذلك الإنسان الفقير البسيط الفاشل الذى هو محل سخرية الناس قد يلجأ للشيطان ليحصل من خلاله على المجد، أو على أسرار الحياة، أو على حجر الفلاسفة، أو على كنوز الدنيا، ولكن السؤال ظل يطرح نفسه عبر معظم الأعمال الفنية، لماذا دخل الشيطان فى صفقة مع إنسان تافه مع أنه كان يمكنه أن يدخل فى تلك الصفقة مع ملوك العالم؟ وقد دخل بالفعل، فما جنكيز خان، وهولاكو، وهتلر، وموسولينى، وغيرهم إلا نتاج صفقات مع إبليس، وقد يكون سبب عدم اهتمام الأدباء وكتّاب الدراما بالشخص الذى سيبيع روحه لإبليس هو أن اهتمامهم الأكبر كان بخصوص الصفقة نفسها، ثم يأتى بعد الصفقة الطرف الأقوى فيها وهو إبليس، ثم تمرد الإنسان فى النهاية على هذه الصفقة، ولكن كيف عالجت الدراما المصرية تلك القصة؟
كان فيلم «سفير جهنم» هو أول الأفلام المصرية التى تناولت تلك القصة، وعالجت تلك العلاقة بين الإنسان والشيطان، وقد كتب يوسف وهبى قصة الفيلم مقتبسًا إياها من «فاوست»، ومثل كل القصص السابقة، والمعالجات الدرامية فى السينما العالمية اهتمت القصة بالصفقة، وبالشيطان، أما الإنسان فكان عبارة عن أسرة فقيرة أكل منها الدهر وشرب، الشيطان فى هذا العمل كان هو العبقرى يوسف وهبى، والإنسان رب الأسرة الفقير المطحون الذى سحقته عجلة الحياة هو «فؤاد شفيق» صاحب الأداء السهل الممتنع، وكانت الصفقة أن يعود رب الأسرة وزوجته إلى شبابهما، وأن يهب إبليس تلك الأسرة المال الوفير ليكونا أثرياء، وتتم الصفقة، وتفسد الأسرة وتصبح مهيأة للدخول إلى جهنم مع إبليس، والملاحظ أن الأداء الغالب على يوسف وهبى فى هذا الفيلم، وهو يؤدى دور الشيطان، هو الأداء المسرحى، سواء فى حركاته، أو فى طريقة إلقائه التى كانت تميل إلى الأداء الخطابى.
ولكن هل خطة إبليس فى الكون هى أن يجعل الإنسان فاسدًا.. أم أن يجعله مفسدًا؟ الفاسد عليه فساده، أما المفسد فهو يمارس الإفساد، وهو الأمر الذى يبحث عنه إبليس، وكم من طرق كثيرة لإبليس يجعل بها الإنسان فاسدًا، وحظ النفس الإنسانية يساعد الشيطان فى مهمته، ولكى يتم الإفساد يجب أن يكون المُفسد قادرًا على القيام به، فإبليس يبحث دائمًا عن صاحب القدرات والإمكانيات، ليشترى روحه ويجعله عبدًا له، ثم يضبط حركته فى الإفساد ليعم الفساد فى العالم كله، وإذا اتجهنا للسينما العالمية لنعرف كيف عالجت تلك القصة سنرى أن المخرج العبقرى «جورج ميليه» كان أول من أخرج هذه القصة سينمائيًا عام ١٩٠٣، ولكن لم يتمكن أحد فى مستقبل الأيام من مشاهدة هذا الفيلم «الصامت»، لأن هذا المخرج كان قد أُصيب بالاكتئاب فأحرق كل أفلامه ولم ينج منها إلا القليل، إلا أن ذاكرة السينما احتفظت بالقصة التى هى نفس قصة «فاوست» دون تغيير يذكر، وهناك أيضًا المخرج الألمانى «مورناو» الذى أخرج قصة «فاوست» عام ١٩٣١ ونالت نجاحًا كبيرًا، وهكذا تتابعت أفلام «فاوست» إلى أن أخرجت السينما الألمانية عام ٢٠١١ فيلم «دكتور فاوست» الذى وجد نقدًا حادًا من النقاد.
وحينما يتحرك بنا الزمن مع السينما المصرية سيكون من حظنا أن نرى عملاقين من عمالقة التمثيل فى مباراة تمثيلية مذهلة، هما محمود المليجى وزكى رستم فى فيلم «موعد مع إبليس»، وهو مقتبس أيضًا من قصة «فاوست» ولكن مع إعطاء صبغة إسلامية للعمل، فالصفقة بين إبليس «محمود المليجى» والإنسان «زكى رستم» لا تتم فى البداية، ولكن إبليس مهد الطريق للإنسان كى يخرج من مشاكل حياته ويصبح واسع الثراء، فيتحول الدكتور رجب الطبيب الذى كانت عيادته فى منطقة شعبية من طبيب فاشل فى عمله، تتراكم عليه الديون، يعجز حتى عن شراء «بسكيلتة» لطفله الصغير، يتم الحجز على عيادته، إلى طبيب ناجح واسع الثراء، وقد حدث ذلك عندما قام الشيطان «محمود المليجى» ذات ليلة بمقابلة الطبيب «زكى رستم» فيغير حاله تمامًا، ولكن ما غرض إبليس من هذا؟ ولماذا قام بتحويل حياة الطبيب رجب من النقيض إلى النقيض؟ سنعرف فى نهاية القصة أن الطفل الصغير ابن الطبيب رجب يُصاب بحالة مرضية، والطبيب من خلال العلم الذى تعلمه من إبليس يعلم أن ما أصاب ابنه سيؤدى إلى وفاته حتمًا، فيلجأ الطبيب إلى إبليس كى يشفى ابنه، فيقبل إبليس ولكن بشرط، ما هو؟ أن يكفر الطبيب بالله ويعبد الشيطان! وستتذكرون معى الآية القرآنية «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنى أخاف الله رب العالمين».
ينتبه الطبيب للمزلق الخطير، ولتلك الهاوية التى يريد إبليس أن يدفعه فيها، فيرفض ويلجأ إلى الله، والذى يلجأ إلى الله لا يُضام أبدًا، وستجد العاطفة الجياشة والصدق فى الأداء من زكى رستم، ولكنك لا يمكن أن تغفل ولو للحظة عن العملاق محمود المليجى الذى لا يمكن أن يتكرر أبدًا وهو يؤدى دور إبليس، أظنك ستخاف من نظرة عينيه، من ذلك البريق الشرير الذى ينطلق منهما، محمود المليجى فى هذا الفيلم لم يكن يمثل الشيطان ولكنه كان الشيطان نفسه، سترى الشيطان فى ملامحه، وفى لفتاته، وفى حركات جسده، وإذا كنا برحمة من الله لم نر إبليس أبدًا، إلا أن المليجى أعطانا صورته، وما صورة الشىء إلا من صفاته، وما صورة إبليس إلا من أعماله.
ومن «موعد مع إبليس» إلى «المرأة التى غلبت الشيطان» وهى من قصة للكاتب الكبير توفيق الحكيم، وقامت بدور المرأة التى اشترى إبليس روحها الفنانة نعمت مختار، وكان إبليس هذا الفيلم هو عادل أدهم، وعادل أدهم هو إبليس السينما المصرية، وقد برع فى أداء دور إبليس، وعاش مع تلك الشخصية، مستخدمًا فى تشخيصها كل إمكانياته، حتى صوته وطريقة نطقه الحروف، ونعومة صوته وهو يقوم بالغواية، وضحكاته، واتساع عينيه عندما يضمر شرًا، وخيبة أمله عندما اتجهت المرأة إلى الله، وذهبت للحج، إنها بذلك تنقض العقد الذى تم توقيعه بينهما، وفى بيتها يأتى إليها لكى تقوم بتنفيذ الاتفاق، الآن يجب أن تنتحر لتدخل إلى مملكته، فتستمهله، ثم تقوم بالصلاة، فيجن جنونه، ويجرى فى المكان حولها كالملتاث وهى تصلى، وينظر للعقد الموقع بينهما فيجد الكلمات قد تم محوها، إنها قدرة الله تعالى، وتموت المرأة موتة طبيعية بعد أن أدت صلاتها، فيكون موتها هو إعلان لانتصارها على إبليس.
وعلى ذات الطريقة شاهدنا منذ سنوات مسلسل «ونوس» الذى قام بدور البطولة فيه يحيى الفخرانى مؤديًا دور الشيطان، ونبيل الحلفاوى مؤديًا دور الإنسان الذى تعاقد مع إبليس على بيع روحه له، يهنأ ياقوت «نبيل الحلفاوى» بالمال الوفير الذى أعطاه له الشيطان ونوس «يحيى الفخرانى»، وعندما يطالبه الشيطان بتنفيذ الاتفاق يرفض ياقوت، فيتجه إبليس إلى أسرة «ياقوت» التى غاب عنها سنوات طويلة ليوقعها فى الغواية فردًا فردًا، وما فعل ذلك إلا لكى يجبر «ياقوت» على تنفيذ اتفاقه، ورغم أن القصة مأخوذة من «فاوست»، وقد أجاد الكاتب عبدالرحيم كمال فى كتابتها فإن الكثير من الأحداث ستضطر للوقوف عندها، فمسألة أن يبدأ الشيطان فى غواية أفراد الأسرة ليضغط بهم على «ياقوت» هو أمر مستغرب! وكأن إبليس قد أعطى لنفسه إجازة فترة طويلة بالنسبة لهذه الأسرة ثم عاد ليغويها ويوسوس لها، ويدفعها للرذيلة والفساد، والأمر على غير ذلك، فإبليس لم يتخل عن مهمته الكونية التى أعطاها لنفسه طرفة عين أبدًا، ولا يوجد واحد من البشر لم يتعرض لوسوسة إبليس وغوايته، ولذلك كان الأكثر منطقية أن يجعل المؤلف لإبليس وسيلة أخرى للضغط على ياقوت، وتكون أيضًا من خلال أسرته التى هجرها.
أيًا كان الأمر فإن القصة التى كتبها عبدالرحيم كمال كانت جيدة، أما الأكثر جودة فهو تلك المباراة الرائعة التى شاهدناها بين الشيطان «ونوس» والإنسان «ياقوت» أجاد الفخرانى، وأبدع الحلفاوى، وقدما نموذجًا جديدًا لتلك الشخصيتين، وقد كان من المستحيل علىَّ شخصيًا أن أرى الفخرانى فى صورة إبليس وأقتنع به، بعد أن رأيته من قبل فى صورة الخواجة عبدالقادر الطيب الصوفى المقبل على الله، ولكن الفخرانى أقنعنى، وجعلنى أنسى الخواجة عبدالقادر، والحلفاوى أبدع أيما إبداع وهو يتمرد على إبليس، وإذا كنا نقول دائمًا: لعنة الله على الشيطان، إلا أننا سنقول هنا: بارك الله فى شياطين السينما والدراما المصرية فقد رأينا الصراع الأبدى بين الشيطان والإنسان من خلالهم.