رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتصار أكتوبر في حياتي


حينما التحقت بمدرسة الزيتون الإعدادية عام 1969 تعرفت على صديقي "جمال نجاتي" الذي كان يفوقنا علما وخلقا ومثابرة، ووصل تفوقه إلى أن أصبح بشكل دائم هو الأول على المدرسة بلا منافس، كان جمال هو الإبن الأكبر للصول "نجاتي" أحد أفراد قوات الصاعقة المصرية، وحين توثقت الصلات وأواصر الصداقة بيني وبينه، كنت أذهب للمذاكرة معه في بيته المتواضع الكائن بإحدى الحارات الضيقة المتفرعة من شارع جانبي، وفي صالة المنزل الصغير كانت الحاجة "أم جمال" تحمل لنا الساندوتشات وأكواب الشاي وهي تتحدث معنا على سجيتها ثم تنهي حديثها معنا وتغادرنا وهي تدعو لنا بالنجاح والفلاح .
كنت أرى والده صاحب القوام القوي والسحنة النيلية السمراء وهو يختم صلاة العشاء ويكثر من الأدعية وهو يرفع يده للسماء، وحين كان يلهج لسانه بالدعاء كنت أسمعه وهو يقول لرب العزة في خشوع وتضرع "اللهم انصرنا عليهم ورد لنا كرامتنا فأنت القادر ولا قادر إلا أنت" .
وبتفكيري الصبياني قلت له ذات يوم : هل ننتظر أن يرد لنا الله كرامتنا ياعمي نجاتي ، لماذا لا نعمل نحن ونرد كرامتنا لأنفسنا، يا عمي لقد قال لنا الأستاذ محمد حسنين مدرس العربي إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، حينئذ نظر لي عمي نجاتي نظرة حب وقال: اطمئن يا ولدي نحن نعمل على رد كرامتنا وسنغير ما بأنفسنا ولكننا نلجأ إلى الله كي يساعدنا، كنا في غفلة والآن نعود إلى يقظتنا .
ومرت سنوات قليلة ودخلنا إلى المدرسة الثانوية، وظل جمال صديقا أثيرا لديّ لا أغادره ولا يغادرني، ورغم أنه دخل إلى مدرسة غير مدرستي إلا أننا كنا نلتقي دائما دون انقطاع، وكانت الزاوية الصغيرة المسماة "زاوية مركز الشباب" والكائنة بآخر شارع طومان باي تجمعنا وقت الصلاة وعند صلاة الجمعة حيث كنا نستمع فيها إلى خطبة "الشيخ فتحي" فنستزيد من علمه وتتحرك قلوبنا من أدعيته .
ثم دخلت إلى الحياة العسكرية عام 1973 !! لا تتعجب فقد كنت وقتها في مدرسة جمال عبد الناصر القومية الثانوية بمصر الجديدة، وحدث قبل حرب أكتوبر وفي بداية العام الدراسي أن تحولت مدرستي الثانوية إلى مدرسة ثانوي عسكري، حيث نرتدي الثياب العسكرية ونجري تدريبات يومية، وكان أحد ضباط الجيش برتبة نقيب يقوم بتدريبنا، وتحولت التربية العسكرية إلى مادة دراسية، ثم إلى أسلوب حياة طبع حياتنا وقتها بقدر من الجدية، فضلا عن أنها ساعدت في تنمية روحنا الوطنية، ويبدو أن إدخال مادة التربية العسكرية إلى المدارس وقتها كانت شكلا من أشكال تحفيز الروح الوطنية للشعب قبل خوض الحرب، ونظرا لأن مدرسة صديقي جمال نجاتي كانت قريبة من مدرستي فكنا قد اتفقنا على أن نلتقي بعد اليوم الدراسي لكي نعود إلى بيوتنا معا في صُحبة طريق يومية، وجاء اليوم المشهود يوم السادس من أكتوبر من عام ألف وتسعمائة ثلاثة وسبعين، ذلك اليوم الذي قفزنا فيه بخيالنا إلى عنان السماء وجرينا صوب بيوتنا نسابق الريح، فقد سمعنا في الشارع صيحات الله أكبر ترتفع مدوية في السماء ورأينا الدموع تنسكب من عيون الرجال والشباب في فرحة أسطورية، كان جنودنا يعبرون بنا إلى نصر تاريخي لم يكن العبور هو مجرد عبور حاجز رملي فقط ولكنه كان في المقام الأول عبور حاجز نفسي آن به أن ينتهي الانكسار والإحباط والمهانة وأن تعود به العزة والكرامة.
وتعطلت المدارس فأخذَنا أبي لنكون في فترة الحرب في معية جدي لأمي ـ رحمه الله ـ في إحدى قرى الشرقية، وكان أن وضعت الحرب أوزارها وعادت لنا الروح ووقف المارد المصري بقوة على قدميه رافعا هامته أمام العالمين بعد أن وقع في ظن الجميع أن مصر لفظت أنفاسها وخرجت من التاريخ، وحين بدأت مباحثات "فك الاشتباك" عادت الدراسة إلى انتظامها فعدنا إلى القاهرة، وفي حارة صديقي جمال نجاتي وجدت الزينة تطوِّق بيته من كل جانب وسمعت الزغاريد وكأنها تُعبر عن فرحة لا تتكرر، فوقع في ظني أن والده قد عاد من الحرب، فهرعت إلى منزله أقفز السلالم قفز الريح، وأمام "بسطة السلم" المواجهة لشقته رأيت جمعا من الناس يشربون الشربات ورأيت الحاجة "أم جمال" تلك الأم الطيبة الوادعة وهي تجلس مع جمع من النسوة وكان وجهها مشرقا منيرا إلا أنه بدا وكأنه يحمل في قسماته طرفا من الفرحة وطرفا من الحزن المستتر والشجن الخفي، وحين رآني جمال احتضنني بقوة وناولني كوب الشربات، سألته وأنا أعب الشربات عبا : أين عم نجاتي فأخذني جمال من ذراعي ونزل بي إلى الشارع حيث انتحى بي جانبا وقال لي وقد اغرورقت عيناه بالدموع: هو الآن في أعلى فرحته وفي أعلى عليين، يعز علي َّ أن فارقنا ولكن الله اختاره لكي يكون شهيدا، وأذكر أنني قلت لجمال وأنا لا أكاد أصدق: كيف هذا ؟ فقال اسمع هذه القصة : كان أبي من أولئك الجنود البواسل الذين عبروا قبل العبور ليعبِّدوا الطريق للجحافل الظمآنة للعبور والنصر، وحين تسلل هو وفرقته اشتبكوا مع كتيبة إسرائيلية وكان القتال عنيفا، كانت مهمة الكتيبة الإسرائيلية هي عرقلة أي عبور لجنودنا وقصف دبابتنا بصواريخهم، وكان القضاء على هذه الكتيبة أمرا لازما لكي يتم العبور دون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة، وعندما استعصت الكتيبة الإسرائيلية وتمنعت وتترست بحصونها كان لابد من أن يكون هناك عمل فدائي، فطوّق أبي نفسه بكم من المتفجرات واخترق حاجزهم وهو يحمل أسلحته ورغم أنهم أصابوه إلا أنه ظل يتقدم بجسارة وقوة شكيمة حتى وصل إلى النقطة التي حددها فنزع فتيل المتفجرات التي كان يحملها فانفجرت وانفجر معها لتتطاير أشلاؤه الطاهرة تصيبهم باللعنات، وبفضل الله تم إبادتهم جميعا ومن بعده استطاع فريق أبي من الفدائيين البواسل اختراق الحاجز وتأمين المكان ثم كان العبور، لهذا يا صديقي نحن الآن في فرحة طاغية فأبي شهيد ومصر في عيد، وكما قال أبي لنا ذات يوم سنأخذ بالأسباب وسنلجأ إلى الله فعادت لنا كرامتنا .
وبعد سنوات طويلة كنت أمر على شارع طومان باي فمررت على مسجد الشهيد "عاطف السادات" ذلك المسجد الذي كان في صبانا زاوية "مركز شباب طومان باي" وإذ دلفت للحارة التي كان يسكن فيها صديقي جمال وجدت لافتة مكتوبا عليها "حارة الشهيد نجاتي" .