رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثروت الخرباوى يكتب: البطل الشعبى شجيع المصريين

ثروت الخرباوى
ثروت الخرباوى

هل الشعب المصرى هو الذى يصنع أبطاله؟ هو الذى يضعهم فوق جبل المجد؟ هو الذى يصنع منهم أسطورة؟.. إن كان الأمر كذلك فلك أن تأسى على أبطال حقيقيين كانوا فى مصر منذ مئات السنين ثم سقطوا من ذاكرة المصريين، وتاهوا فى زحام الأيام والأحداث فأصبحوا منسيين، وبالرغم من أن بعض كبار الكتّاب حاولوا أن يبعثوا هؤلاء الأبطال إلى الحياة مرة أخرى فإن الضمير الجمعى للشعب لم يتقبل منهم هذا الإحياء، وقد أوجعتنى جدًا قصة «السلطان حامد» التى كتبها الكاتب المبهر يوسف إدريس، وضمها إلى مجموعته «حادثة شرف» تحت عنوان «سره الباتع»، وأنا أرجوكم جميعًا أن تقرأوا تلك القصة التى إن لم يكتب إدريس غيرها لكفته لكى يكون تشيكوف العرب وأمير القصة بلا منازع، وقد تعجبتُ لماذا لم يصبح «السلطان حامد» بطلًا شعبيًا تتناقل الأجيال قصته، ويغنى له المنشدون، ويكتب سيرته وبطولاته الشعراء.

لقد كانت بطولة «السلطان حامد» إبان الحملة الفرنسية من البطولات التى تحير الألباب، هو فى الحقيقة لم يكن سلطانًا ولكنه كان فلاحًا بسيطًا من قرية «شطانوف» آل على نفسه أن يقاوم الحملة الفرنسية فقتل أحد جنودها، وعلى إثر ذلك تحركت قوات الاحتلال لتقبض عليه، وقد كانت لديه علامة لا تغيب عن أحد، يستطيعون معرفته من خلالها، هى أن له فى يده اليسرى إصبعًا مقطوعًا، وعلى جبينه وشم عصفورة، ولكى لا يعثر عليه جنود الفرنسيين قام مئات الشباب من القرى بقطع إصبع من كفوفهم، ورسموا وشم العصفورة على جبينهم، كان تعاطف الفلاحين مع «حامد» وحبهم له لا نظير له، إلى أن قتله الفرنسيون وقطعوا جسده، فأقام الفلاحون له ألف مقام فى قرى مصر كلها، وكأنهم يعيدون قصة أوزوريس، وكأن بهذه «المقامات» سيعود «حامد» إلى الحياة.
يا للجمال ويا للروعة، ولكن لماذا نسينا تلك القصة؟! لماذا لم نخلدها؟! ولم نعرف عنها شيئًا إلا من خلال بحث قام به يوسف إدريس بعد أن عرف تفاصيله من كتاب فرنسى يؤرخ للحملة الفرنسية على مصر، ثم كتبها إدريس فى مجموعته القصصية «حادثة شرف» بل لماذا لم نُخلد البطولات الحقيقية التى قام بها أبطال ضن الزمان بهم على كل الأمم وخصَّنا بهم؟، وفى الوقت ذاته إذا بقصة «ياسين وبهية» تخلد فى ضمير المصريين، وتصبح قصة «على الزيبق» من القصص الخالدة فى الوعى المصرى.
أما «أدهم الشرقاوى» فقد أصبح بطلًا شعبيًا، وسارت الدراما على استحياء وراء تلك القصص وأسهمت فى تخليدها، ولأن للمصرى جيناته الخاصة به التى تحتاج إلى دراسة معمقة لذلك قام الضمير المصرى بصياغة قصص «على الزيبق» و«ياسين» و«أدهم الشرقاوى» بما يتناسب مع الروح المصرية الرافضة للاحتلال، وللسلطة الموالية للمحتلين، ففى الفترة التى احتل فيها العثمانيون مصر صنع المصريون بطلًا لهم هو على الزيبق الذى كان ضد السلطة، و«ضد السلطة» هذه هى ترجمة للنفسية المصرية التى ذاقت الويلات من سلطات الاحتلال، لذلك كان من يقف ضدها بطلًا ولو كان لصًا، أو قاتلًا، أو سفاحًا، أو عربيدًا، لا يهم، فالمهم أنه ضد السلطة، وفى أوائل القرن العشرين كان أدهم الشرقاوى بطلًا لأنه كان ضد السلطة، وأيًا كانت الوسيلة التى عبَّر بها عن تمرده، سواء كانت بالقتل أو السرقة أو غيرها، إلا أنه تحوَّل فى خيال الجماهير إلى بطل شعبى، فى ذاك الزمن كان المصرى يُستخدم فى السخرة لخدمة الإنجليز، وكان الانضمام للجيش مصيبة ما بعدها مصيبة، حتى إن الفلاح الفقير كان يقطع إصبعه حتى ينجو من التجنيد، وكانت الأم المصرية يستولى عليها الأسى حينما يذهب ابنها للجيش لأنه سيكون من أفراد جيش العدو، فخرج الضمير المصرى بأغنية «يا عزيز عينى أنا بدى أروَّح بلدى، يا عزيز عينى السلطة أخدت ولدى» وفى تلك الفترة أيضًا خلَّد المصريون قصة «ياسين» وحبيبته «بهية»، وأخذ المصرى يبحث عن كل متمرد على السلطة ليمنحه نيشان البطولة ويهبه حب المصريين.
وإذا نظرنا للدراما وصلتها بالبطل الشعبى قبل ثورة ١٩٥٢ فسنجد أن السينما والإذاعة والمسرح ليس لديها أى اهتمام بالبطل الشعبى صاحب البطولات الأسطورية، إلا أن الثورة أعطت للمصريين وعيًا جديدًا، إذ أصبح رئيس السلطة جمال عبدالناصر هو بذاته البطل الشعبى الذى نصرهم ضد المحتل وأتباعه، وضد سلطة سابقة حرمتهم من حقوقهم، لذلك ما إن جاء عام ١٩٦٠ حتى أخرجت لنا السينما فيلم «بهية»، وهو يحكى قصة «ياسين» وحبيبته «بهية»، وكان لا بد أن يكون «ياسين» وسيمًا وقويًا، ولم يكن فى السينما من يقارب رشدى أباظة فى وسامته وقوته، لذلك كان هو «ياسين»، وكانت «بهية» هى لبنى عبدالعزيز بملامحها المصرية الفرعونية، وفى هذا الفيلم شاهدنا ياسين المصرى الذى يبحث عن الحق ويقاوم الظلم، ومهما حاول المؤرخون فى نفى بطولة «ياسين» واتهامه بالإجرام إلا أنه ظل عنوانًا للبطولة، وكيف لا يكون ورشدى أباظة هو من قام بتشخيصه؟! وكيف لا يكون والظالم الإقطاعى حاول أن يغتصب حبيبته «بهية»؟! وكيف لا يكون و«ياسين» هو الذى ينقذها من بين براثنه؟
وفى عام ١٩٦٢ تتوقف الحياة فى مصر كل يوم جمعة عند إذاعة مسلسل «أدهم الشرقاوى» فى الإذاعة المصرية، وقد كان هذا المسلسل الإذاعى عبارة عن ملحمة غنائية أداها المطرب الشعبى محمد رشدى، وكانت هذه الملحمة هى سلم النجاح بالنسبة له، إذ ذاعت شهرته بعدها وأصبح من كبار المغنين، وقد شاركت فى ملحمة «أدهم الشرقاوى» مجموعة من كبار الفنانين على رأسهم محمد السبع، صاحب الصوت العميق، وكريمة مختار وأحمد أباظة، شقيق رشدى أباظة.
اهتم المصريون بالبطل «أدهم» الذى وقف ضد الظلم وتحمَّل السجن، وقاوم السلطة والمحتل، ووقف ضد ظلم الباشا وزوجته، ووقف مع أهل قريته ليدفع عنهم استبداد الاحتلال، وينجح فى تحطيم قضبان السكة الحديد، لينقلب القطار المحمل بجنود الإنجليز، وبطولات أخرى كثيرة، ولا شك أن الشعب المصرى عند إذاعة تلك الملحمة كان فخورًا ببطله الشعبى جمال عبدالناصر، معتقدًا أنه نبت من تلك الأرض التى نبت منها «أدهم»، لذلك كانت المقاربات فى أذهان الناس تدور بين أدهم الشرقاوى وجمال عبدالناصر، وستظل هذه المقاربات فى الخيال الجمعى للمصريين.
وفى عام ١٩٦٤ تُخرج لنا السينما فيلمًا يروى قصة «أدهم الشرقاوى»، قام ببطولته عبدالله غيث بعبقريته، فهو الفلاح ابن الفلاح، ابن منيا القمح بمحافظة الشرقية، وهو الذى عاش فى الريف ويعرف مشاعر الفلاحين وحرصهم على أقواتهم وحرياتهم ورفضهم الظلم، وتأتى لبنى عبدالعزيز المصرية ذات الملامح الفرعونية فى دور البطولة، وكأنها هى دائمًا المصرية الأصيلة، ويبدو أن بزوغ نجم محمد رشدى فى ملحمة «أدهم الشرقاوى» الرائعة جعل عبدالحليم حافظ يأخذ مكانه، ويكون هو المغنى والمنشد الثورى فى هذا الفيلم، لم نر صورته ولكننا سمعنا صوته، فأعطى للفيلم رونقًا ملحميًا خاصًا، ونجح الفيلم نجاحًا كبيرًا، وانقلبت الآية فأصبح عبدالحليم هو الذى ينافس محمد رشدى، وكان هذا الفيلم من الأفلام القليلة التى قام عبدالله غيث ببطولتها المطلقة، وقد استطاع فيه تجسيد شخصية الفلاح المصرى عندما يصبح بطلًا أسطوريًا.
وظلت قصة «أدهم الشرقاوى» تداعب خيال المؤلفين، فتظهر لنا عام ٢٠٠٨ من خلال عمل مسرحى لم يلق ذيوعًا، ثم تظهر لنا عام ٢٠٠٩ من خلال مسلسل تليفزيونى ولكنه كان فقيرًا فنيًا، لتظل ملحمة محمد رشدى، وفيلم عبدالله غيث هما الأشهر والأقوى فى تخليد ذكرى أدهم الشرقاوى الذى جعله المصريون بطلًا.
كل هذا كان له مذاق، ولكن «على الزيبق» كان له مذاق آخر، فمن كتبها للإذاعة هو سيد الأدب الشعبى فاروق خورشيد، ومن مثلها فى الإذاعة من قبل هو عبدالرحمن أبوزهرة الذى قدّم فى المسلسل الإذاعى دور عمره، وأيضًا قام محمد وفيق ببطولة مسلسل إذاعى عن «على الزيبق»، وتم تقديم هذه الشخصية فى المسرح، ولكن الذى أظهر نبوغه فى أداء تلك الشخصية فهو فاروق الفيشاوى فى المسلسل الشهير «على الزيبق» الذى شاهدناه عام ١٩٨٥، ذلك المسلسل الممتع المشوق الذى كتبه الكاتب والأديب الرائع يسرى الجندى، وكنت أرى فى هذا المسلسل ليس براعة التمثيل والإخراج فحسب، ولكننى كنت أرى مباراة ممتعة فى التأليف بين فاروق خورشيد ويسرى الجندى، تلك المباراة التى كانت نتيجتها التعادل، إذ لم يستطع أحدهما أن يتفوق على الآخر، وقد كانت هذه المباراة هى المتعة الكبرى.
ففاروق خورشيد كتب «على الزيبق» للإذاعة، وخيال المستمع فى الإذاعة يلعب دوره ويضيف من عندياته للأحداث، أما التليفزيون فلا يدع مجالًا للخيال، هو يحبسك فى خيال المؤلف، وتنفيذ المخرج، وأداء الممثل، فإما أن يبهرك أو يجعلك تهجره، «على الزيبق» فى المسلسل الإذاعى وأيضًا التليفزيونى هو البطل المصرى شديد الذكاء واسع الحيلة، هو الذى يقف ضد الوالى العثمانلى الظالم، ويحارب القاضى الفاسد «حلاوة»، ويدبر المقالب لشميعة اليهودى المرابى، ويهزم مقدم الدرك سنقر الكلبى المرة تلو المرة، ويدك معاقل التجار الجشعين، وقد كانت أحداث المسلسل الإذاعى قمة فى التشويق، ولك أن تتيه فخرًا بأن مصر لديها ممثل فى قدرات عبدالرحمن أبوزهرة الذى تفوق على نفسه.
فإذا نظرت إلى المسلسل التليفزيونى فلا أظنك ستحب إنسانًا قدر حبك لفاروق الفيشاوى الذى قدَّم فى هذا المسلسل دور عمره، بمعنى أن أى عمل فنى قدمه الفيشاوى عبر حياته كان بالنسبة لـ«على الزيبق» لا شىء، كل أفلامه ومسلسلاته تقف أما «الزيبق» حاسرة الرأس محنية الهامة، قدَّم لنا الفيشاوى شخصية «على الزيبق» فجعلها مطبوعة فى الوجدان المصرى لا يمكن لأحد أن يخلعها منه أبدًا، لذلك فإن فترة الثمانينيات قدمت لنا شخصيتين ألهبتا مشاعر المصريين، بل العرب جميعًا، هما «على الزيبق» و«رأفت الهجان»، وكلما كنت أشاهد أعمالًا أخرى للفيشاوى كنت أقول: إن «على الزيبق» هى بيضة الديك بالنسبة للفيشاوى، فقد بلغ فيها آفاقًا عالية، وجعلنا نحب هذا البطل الشعبى ونتمنى أن يتكرر فى كل جيل، ولم يستطع الفيشاوى أن يقدم لنا عملًا آخر أو شخصية أخرى تقترب فى قامتها من «على الزيبق»، أما محمود عبدالعزيز فقد كانت له بيضات كثيرات أعظمها «رأفت الهجان».
الآن مصر تُخرج لنا أبطالًا فى كل يوم، يخرج إلى الحياة الشهيد البطل أحمد منسى، ونعرف بطولاته التى كان يحارب فيها أخطر عدو مر على مصر عبر تاريخها، ويخرج لنا الشهيد البطل محمد أبوشقرة الذى قاتل أخس الأعداء وأكثرهم غدرًا ببطولة نادرة، حتى إنهم لم يستطيعوا النيل منه إلا أن يغدروا به فقتلوه من خلف ظهره، وستظل مصر تُخرج لنا أبطالًا، وسنظل نقول للدراما: قومى بدورك، كونى أنتِ مثل الراوى الشعبى القديم الذى تغنى ببطولات الزيبق والزناتى خليفة وسيف بن ذى يزن، وإذا كانت أمريكا قد صنعت لنفسها أبطالًا من الخيال، لم يكن لهم أى وجود فى الحقيقة، مثل شخصية «رامبو»، فإن الله قد وهبنا أبطالًا حقيقيين من لحم ودم صنعوا أساطير تخجل منها أساطير الغرب، فهل سنجعل أبطالنا قدوة وقيمة للشباب المصرى ولكل إنسان وطنى، بدلًا من تلك الشخصيات الممسوخة البليدة التى شوّهت مشاعر شبابنا؟.. إذن فلتعلموا أن الدراما هى ضمير الوطن فارفقوا بضمائرنا يا صنّاع الدراما، ولكم ولنا فى فيلم «الممر» ومسلسل «الاختيار» قدوة حسنة.