رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: العجلة أم رأسين تظهر فى رمضان

محمود خليل
محمود خليل

رمضان المصريين هو شهر للنفقة. فأكثر ما يمتع المصرى فى رمضان هو الإنفاق على شراء مستلزمات الشهر الكريم، وأكثر ما ينغص عليه خلو الجيب من ثمن المتع الصغيرة التى تعوَّد أن يحصل عليها خلاله. كان رمضان من عام ١١٩٨ هجرية الذى وافق عام ١٧٨٤ ميلادية من أكثر الأشهر بؤسًا فى تاريخ التجربة الرمضانية المصرية. فى ذلك الوقت اعتلى عرش إمارة مماليك مصر كل من المملوك إبراهيم بك والمملوك مراد بك وهما من تلامذة وخشداشية محمد بك أبوالدهب، وقد خلفاه فى الحكم بعد وفاته فى الشام عقب إصابته بالحمى.
لم يتفاءل المصريون بتولى اثنين من المماليك السلطة. فالتجربة علمتهم أن الصراع سرعان ما يدب بينهما. والأهالى وحدهم هم من يدفعون ثمن الصراع. وقد وقع المحظور ودب الخلاف بين المملوكين وجاءت البداية من إبراهيم بك، حين تغير على مراد، ففر الأخير من وجهه واعتصم بالصعيد، وأخذ يجمع المماليك المعارضين لإبراهيم بك حوله. وعندما أعد العدة تحرك إلى الجيزة وبدأ فى مناوشة غريمه. ثم تحولت المناوشة إلى صراع دام كلف الأهالى ثمنًا باهظًا حتى تصالح الاثنان.
رمضان ١٧٨٤ وكذلك رمضان الذى تلاه قضاهما المصريون فى ظروف شديدة البؤس، وبعد أن أكل المملوكان ما لديهم من أموال بالسلب والنهب والمصادرة والفرض والضرائب بادر الأهالى إلى أكل بعضهم بعضًا. يكفى فى وصف المشهد البائس أن نستذكر أن «الجبرتى» ذكر فى «عجائب الآثار» أن «مساتير الناس» فى ذلك الوقت اضطروا إلى بيع دورهم ومواشيهم، وباع بعضهم أمتعته وملابسه حتى يتمكن من الإنفاق على نفسه أو من يعول. وكل من كان غنيًا فى ذلك الوقت بالغ فى إخفاء ماله وحبسه عن الإنفاق وتحمل مذلة الفقر حتى لا يكتشف رجال إبراهيم أو رجال مراد أمره فينهبون ما لديه من ثروة. وشاع السلف بين الناس، حتى مال المواريث كان يتم الاستيلاء عليه، سواء كان للميت وارث أم لم يكن، وكان المحظوظ فى ذلك الوقت هو من يلى وظيفة فى بيت المال الذى تحول إلى «نهيبة كبرى» لكل من يعمل فيه. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد «ففسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع، وكثر الحقد والحسد فى الناس لبعضهم بعضًا، وانتشر قطاع الطرق وأولاد الحرام، واختفت الأحاسيس الإيمانية والتحسن الأخلاقى الذى يصيب الأهالى فى رمضان».
ومع اشتداد الجوع فى قرى مصر هج الفلاحون إلى القاهرة وانتشروا فى حواريها وأزقتها وأولادهم يصرخون من الجوع ويأكلون ما تساقط فى الطرقات من قشور البطيخ وغيره. والمضحك أن هذا السلوك تسبب فى نظافة الأماكن بالقاهرة حتى لم يعد لـ«الزبالين» من عمل يعملونه. واشتدت الحال بالناس أكثر فلجأوا إلى أكل الميتة من الخيل والبغال والحمير. ولم ينج المصريون من هذه المحنة إلا عندما جاء مدد الغلة من بلاد الشام. والأكثر إضحاكًا فى رمضان هذا العام واقعة سجلها «الجبرتى» فى تاريخه حول «العجلة أم رأسين». ويذكر المؤرخ أنه ذهب إلى البيت الذى ظهرت به العجلة بصحبة الشاعر إسماعيل الخشاب وتأكد من أنها برأسين مكتملين بالفعل، وأنها تأكل بفم رأس واحد منهما. وكانت تلك من الأعاجيب الرمضانية المؤرخة. ولست أدرى هل ثمة رابط بين ظهور تلك العجلة فى زمن كانت تحكم فيه مصر برأسين أم لا؟!